أنا لا أملك ترف أن أكون فرداً

تقول جوليا روبرت في بداية فلم (طعام، صلاة، حب) أن صديقتها المعالجة النفسية طلُب منها العمل في مخيمات المهاجرين الكمبوديين حين وصولهم للمخيميات بعد حروبهم من الموت والمجاعة في بلادهم. فزعت في بداية الأمر؛ كيف ستفهم ما يعانون منه؟ كيف ستستطيع مساعدتهم؟
عندما وصلت للمخيمات وبدأت جلسات العلاج، كانت أغلب حالات الجلسات عن الحب والعلاقات!
“أغرمت بهذا الشاب ولكن افترقنا في قوارب النجاة والتقينا مجدداً في المخيم، ما زال يلاحقني رغم أنه كان على علاقة بنسيبتي…”

يثير استغرابي هذا المشهد في كل مرة ويضحكني كم نحن هشّون، وكم أننا -مهما حاولنا- فالعلاقات الإنسانية تشغل الحيّز الأكبر من تفكيرنا.

أو كما يقولها د. عصام الخواجة (الإنسان كائن أغلب من الغُلب)

هل سأضجركم بالحديث عن هذا الفلم مرة آخرى في هذه التدوينة؟ بالطبع لا.
في الحقيقة سأحدثكم عن شيء آخر هذه المرة، كان الفتيل لكتابة هذه التدوينة.
عن كتابي المفضل لهذا العام (ربما عليك أن تكلم أحداً / لوري غوتليب)

أنهيت قراءته مع نهاية العام، ولأول مرة منذ زمن استمتع بقراءة كتاب لدرجة أن أشعر أني أفارق صديقاً مفضلاً بإنهاءه. أعدُّ الصفحات كي لا ينتهي.
مع انتشار موجة كتب الـ self help، وغيرها من الهراء. كنت بحاجة لأن أقرأ عن المواضيع النفسية بطريقة مختلفة. بطريقة علمية وإنسانية حقيقية، وقد أكتب عنه مراجعة منفصلة لاحقاً.

أنهيت الكتاب وجملة واحدة تتكرر في عقلي “نحن ننمو عبر التواصل مع الآخرين
وبدأت أفكر كيف تبدو حياة الإنسان وحيداً؟
كيف ستبدو حياتك لو جردتها من كل علاقاتك؟

كيف تجيد الاعتناء بنبتة ما إن لم تعرف من أي عائلة من النباتات هي؟
إن لم تعرف جذرها وطقوسها ومدى احتياجها للماء والضوء؟
لن تزهر!

أخبرني صديقي منذ فترة أنه قد أثار انتباهه خلال أحاديثنا أني دائمة السؤال عن العلاقات بين الأشخاص والأشياء التي نتحدث عنها.
أهتم بمعرفة التفاصيل وعلاقة الأشخاص ببعضها حتى أفهم ماهيّة القصة كاملة.
يحكي لي قصة لقاءه مع إحدى الشباب السوريين في اسطنبول استفسر عن اسمه واسم عائلته.
يستطرد -بطلب مني- في الحديث عن عائلته وطقوسها المختلفة، فأطلب أن أرى صوراً لهم.

تأسرني هذه التفاصيل واستمتع برؤيتها ومعرفتها..
ويخيّل لي دائماً أننا مترابطين بطريقة ما.. وأؤمن أن أسرع طريقة لفهم إنسان ما، هي أن تدعه يتحدث عن بيئته.
أن ترى لمعة عيونه حين يتحدث عن ما هو مرتبط به بشدة.

وعكساً عن السائد، لا يزعجني أن يقوم أحدهم باستعراض عشرات الصور لإحدى أطفال عائلته محتفلاً بإنجازاته الصغيرة.. وقلبه يخفق حباً، راوياً قصة نطقه لاسمه للمرة الأولى..

أخبرتني صديقتي يوماً (لكونها شخصاً بصرياً)، بأنها تتخيلني دائماً بشكل دائري، وكنت قد اقتنيت حينها عقداً دائري الشكل يرمز للكارما
(what goes around comes around).
وأظنها محقة، أحب أن أتخيّل الحياة دائرية الشكل، وأننا نلف ضمنها بدوائر متداخلة، لا تبدأ وتنتهي بنقطة محددة.
وإنما تدور دون توقف، تتباعد وتتقارب كل فترة وأخرى.. لا مسافات ثابتة فيما بيننا..

بدأت أنفر حقاً من “دعوات التشافي” التي تقوم على فكرة الانعزالية التامة ونبذ الآخرين بالمطلق.
أتفهم تماماً أهمية الحدود -وأزعم أنني أجيد رسمها-، ولكن أن نعيش وحيدين لا يشغلنا سوى أنفسنا؟ أي حياة هذه؟
أو بمعنى أدق أي غابة هذه؟ لماذا يتم تكريس فكرة أن على الفرد النجاة بنفسه.. وحيداً؟

أهذا ما سيكون عليه شكل عالمنا ما بعد الحداثة؟
حب نفسك وقدّس راحتك لدرجة أن يكون جلُّ ما يشغل كل شخص مننا حياته فقط؟ غير عابئ بمن حوله ومشاعرهم واحتياجاتهم؟

لطالما أزعجتني أيضاً فكرة البطل الوحيد المغوار حتى ضمن المسلسلات..
هناك دائماً هذه الشخصية المثالية، الحنونة، المحبّة.. جابر عثرات الكرام..
الذي يعرف كيف يتصرف عند كل مأزق، ويجيد حل كل مشكلة مهما تشابكت خيوطها.. لوحده.
تراه يخرج منتصراً من كل معركة خاضها بنفسه، لينقذ من حوله.. وغبار النصر يتطاير من حوله.. ليتم الاحتفاء بقدرته وقوته.

ولكن هل نحن فعلاً أقوياء بمفردنا؟

يؤيدني العلم في ذلك نوعاً ما..
فالنظرية الاجتماعية المشهورة تقول بأن كل شخص هو على بعد ست أشخاص أو أقل أقل من أي شخص آخر في العالم..
أنت على بعد ست أشخاص من الشخص الذي سيساعدك على الحصول فرصة العمل التي تحلم بها، وستة أشخاص عن الشخص الذي قد تقع في حبه، وستة أشخاص ربما عن الشخص الذي سينقذك من قاع حزنك بأن يكون لك أذناً صاغية وقلباً مفتوحاً..

انتشر من فترة منشور على انستغرام يقول:
“الرحلة فردية.. مهما ازدحمت دنياك، مهما امتلأت بالناس.. تبقى الرحلة فردية.. أنت الراعي وأنت الرعية”

وافقت المذكور عندما قرأته للمرة الأولى، ولكن بعد تفكير عرفت أني أرفض تماماً أن أمشي رحلتي هذه بشكل فردي.
فأنا أقوى بمن حولي، بالدوائر الصغيرة والكبيرة..
وأنا كما قالتها الكاتبة “أنمو من خلالهم”
أنمو من تورطي العاطفي والعقلي والوجداني مع من أحبهم، وبقضاياهم ومشاكلهم ومشاعرهم.

من حولك مرايا لك ودون انعكاساتهم ستغدو دون مرجعية وينتهي بك الأمر كأسطورة ناركيسوس.

يخبرني أحدهم دائماً بأن أقلل من توقعاتي ممن حولي.. أعترف أنني حاولت وفشلت..
فلم أستطع أن أفهم معنى العائلة أو الصداقة أو الحب.. إن لم تكن مجموعة من التوقعات؟
ما معنى ما نتشاركه إن لم يكن حفنة من التوقعات والآمال التي أبنيها على ما بيننا؟
كيف أمضي في علاقة ما دون أن أنتظر منها شيئاً؟

أؤمن أن التضامن فطري، والإنسان جزء من كلّ، مهما حاولوا إبعاده عن هذه الحقيقة.
انتزاعنا من شبكاتنا ودوائرنا باسم حب الذات والتشافي وقطع العلاقات السامة بهذا التطرف، لهو الأنانية بحد ذاتها.

“عليك تعلّم نطق كلمة (أنا)
كي تقول: أنا أحبك”
آين راند

شاهدت فيديو للكاتبة بثينة العيسى مؤخراً، تقاطع جداً مع ماكنت أفكر به أثناء كتابة هذه التدوينة.
ذكرت فيه عن مناظرة بين شخص أبيض وشخص أسود، حول موضوع الفردانية والهروب من الجماعة.
رد فيها الرجل الأسود على إحدى الحجج بقوله:
“I can’t afford to be an individual”
أنا لا أملك ترف أن أكون فرداً.

نعم هذا صحيح، الفردانية امتياز وترف.
امتياز لمن سمحوا لغرورهم أن يقنعهم بأنهم قادرون على الاستمرار بمفردهم، دون دعم ودون عون ودون صحبة حقيقية.
وإني لأرى هذا الجحيم لا محالة.

ولو كان هذا شكل الحياة القادم، فبصراحة الغي رحلتي.

——–

منلف فدواير.. والدنيا تلف بينا
ودايماً ننتهي لمطرح ما ابتدينا..

مروان خوري / دواير

——–

مصدر صورة الغلاف

شارك ما قرأت

عن الوداعات..
جوي أورد - العرب يحتفون بعقدة الرجل الأبيض

18 Comments

  1. Aisha 21 يناير, 2024 في 10:12 م - الرد

    كتير حبيت لجين 🥹👍🏻

  2. Ezzat 20 يناير, 2024 في 11:26 ص - الرد

    يبدأ كل شيء ذو قيمة حقيقية تتجاوز مادية الأنسان وتجعله يتفرد بشكل استثنائي عند علاقاته سواء بالخالق أو بالمخلوقات بشر كانت أو حتى حيوانات وإلا سوف نصبح سيزيف ونغوص في بحر من العدم.
    من الجيد رؤية أي شيء يقف في طريق تطرف الوحدة لأنها نهاية كل ما هو جميل

  3. Rawan 14 يناير, 2024 في 9:09 م - الرد

    كأنك كتبتي الصراع اللي كان جواتي من كم يوم و انا عم اقرأ كتاب اسمه “دليل النجاة الفردية” خطرلي نفس الكلام انه ليه النجاة الفردية؟ ليه كل واحد فينا لازم يكون لحاله حتى ينجو؟ طب انا كائن اجتماعي بطبعي، بحب الرفقة و المشاركة و الونس.. ضل ببالي سؤال انه كيف فيني انجو اذا كل شي حوالينا عم يدعو للفردانية؟
    كتير حلو الكلام 👏🏼❤️

  4. Lana 14 يناير, 2024 في 1:04 ص - الرد

    بتجنن كالعادة ♥️

  5. Waseemz 11 يناير, 2024 في 12:33 م - الرد

    أتفق تماماً
    نحن كائنات اجتماعيّة بطبيعتنا

  6. Rouba Saloumee 10 يناير, 2024 في 12:33 م - الرد

    👍❤️

  7. Sabah 10 يناير, 2024 في 9:44 ص - الرد

    ❤️❤️❤️

  8. ⚫️ 10 يناير, 2024 في 9:16 ص - الرد

    I even thought that if I died, I wont be scared of death if I was going to the other side with a good company,
    I loved the blog♥️

    • لجين 10 يناير, 2024 في 1:14 م - الرد

      لك بعيد الشر صديقتي البصرية 😂❤️❤️❤️

  9. ربى 10 يناير, 2024 في 8:55 ص - الرد

    بجننن يا لجين يعني ما حبيت اني خلص قرائتها

    • لجين 10 يناير, 2024 في 1:13 م - الرد

      من قلبي شكراً ربى 🥹❤️❤️

  10. Yara 10 يناير, 2024 في 7:44 ص - الرد

    كتير حلو… عم تحكي عن صراع داخلي كل حدا فينا عم يعيشو… انو عنجد عيش لحالي وافرح لحالي واتشافى لحالي او لا اندمج اكتر بالناس…. استمري كتير كتاباتك قريبة من القلب

    • لجين 10 يناير, 2024 في 1:13 م - الرد

      شكراً كتير لأنك قريتي ❤️❤️

  11. حنان حمادة 10 يناير, 2024 في 2:54 ص - الرد

    ❤️❤️❤️❤️ يالله لجين سلاسة جملك وعفويتها تأسرني ،،

    • لجين 10 يناير, 2024 في 3:10 ص - الرد

      أنا بستنى تعليقك أمي ❤️ بيكفي أنتي تقري وتحبي وبس ❤️

اضف تعليقاً