عن الوداعات..

نشر في: 3 نوفمبر, 2023 | الأقسام: مذكرات | 5 تعليقات on عن الوداعات.. |

لم يبدو كل شيء أجمل في الوداع؟
أسير في المدينة فتبدو لي أجمل فجأة..
ساحرة كما عهدتها حين كنت أتيها زائرة..
فجأة بدا الناس ألطف.. الطقس أهدأ..
والأماكن التي نبذتني غربة.. أكثر ألفة وقرباً..

سنتان في هذه المدينة.. سنة وعشرة أشهر على وجه الدقة..
عشت فيها على الضفاف.. كنت كمن يجلس على حافة النهر رافضاً النزول خشية البلل..
يتسرب لي الماء بين حين وأخرى ولكنني في المبدأ جافة.. لم أنخرط في السباحة..

لطالما كان في رأسي فكرة غير معلنة عن أن اسطنبول ستكون مرحلة انتقالية.. مرحلة عبور..
أليست كذلك لكل السوريين؟
فتبدو كمرحلة متوسطة لكيلا يصعب عليك الانتقال من بلد العتم إلى بلد الضوء مباشرة.. خوفاً عليك من الصدمة الحضارية والنفسية..

تفتح لك اسطنبول ذراعيها مؤقتاً.. تجعلك تتعرف على حياة أوروبا.. دون إفراط..
ففي اللحظة التي تشعر أنك اعتدت حياة الرفاهية والرخاء..
ستجدك مرغماً على النزول من سيارة التاكسي بناء على طلب سائقها صارخاً لأنه لم يقبل أن تدفع بالبطاقة بدلاً عن الكاش!
لتعيدك ذاكرتك إلى بلادنا فوراً.. بفوضويتها وعشوائيتها..

تستخدم صديقتي مفردة (بلادنا) في كل مرة تأتي على ذكر سوريا
أعجبني الوصف وقررت استخدامه.. فهي ليست مجرد بلد.. هي بلادنا..

عشت في اسطنبول على الجانب.. رفضت دون وعي مني الانغماس فيها..
قلت يوماً لإحدى أصدقائي ساخرة (مابدي استقر كتير فيها واشتري كتير فرش، حتى ما أعطي إشارة للقدر أني بقيانة!)
ويبدو أن القدر قد فهم إشاراتي.

ربما كنت ضمنياً خائفة من أن أعيد تجربة خروجي من سوريا..
حيث كنت أعيش ملأ قلبي، فاتحة قلبي وروحي على مصراعيهم.. (بالطول والعرض كما يقال)
فأصبحت فكرة وداعي لها ثقيلة، إن لم أقل مستحيلة..
حتى شاءت الأقدار أن أرحل دون تخطيط.. ودون وداع حقيقي..

كانت صداقاتي في اسطنبول محدودة.. أماكني المفضلة محدودة..
حتى علاقات الحب.. لم أرغب أن أعيش فيها ذكريات حب.. نأيت بنفسي عن أن أعلّق نفسي بما سيوجعني غيابه..

كما قالتها البطلة في فيلم The fault in our stars

“I’m a grenade and at some point, I’m going to blow up and I would like to minimize the casualties.”

رغم أني اختبرت في اسطنبول تحديات وخيبات كثيرة.. ولكن لها في قلبي معزّة خاصة
ففي هذه المدينة عشت شعور الغربة الحقيقية للمرة الأولى، الاستقلال والاستقرار الحقيقي
عشت فيها تفاصيلي كاملة كما أحب وأشتهي..

غالبتني دموعي في كل يوم من أيامي الأخيرة في منزلي.. بيتي الذي شعرت فيها بالأمان لأول مرة..
والذي احتوتني جدرانه لسنتين طويلتين.. واحتضنت ذكرياتي، صداقاتي، دموعي، ضحكاتي وقلقي..

أحفظ هذه الزوايا..
أعرف أين يتجمّع الغبار فيصعب عليّ تنظيفه..
أعرف يد الباب التي تشارف على الوقوع والتي يجب أن استخدمها برقة..
أعرف في أي درج أجمع القروش والنقود المعدنية التي لاقيمة لها..
وأحفظ كيف تتدرج الشمس على الشقة طوال اليوم، وما المكان المناسب للجلوس في كل ساعة من ساعات الظهيرة..

جمعت كل حياتي وتفاصيلي في حقيبتين اثنتين ورحلت..

تدهشني قدرتنا نحن السوريون على فعل المستحيل، هجرة أولى وثانية وثالثة.. نبدأ من الصفر في كل مرة
آملين بالوصول إلى الأمان.. إلى وطن بديل عن الوطن الذي لفظنا، وعن الانتماء الذي افتقدناه..

تغرقك المدن الجديدة حين تصل إليها.. والمدن الكبيرة بالتحديد..
تشعر بحجمك يتضاءل داخلها.. كيف سأقتحم هذا المكان؟ كيف سأجد لنفسي مكاناً فيه؟

كان الشهر الأول صعباً..
اصطحبني صديقي لزيارتي الأول لمركز المدينة بعد مرور ثلاثة أسابيع فيها..
فبدا الأمر أسهل.. هذه المدينة تشبه المدينة السابقة، وتشبه كل مدينة سبق أن زرتها..
كل الأماكن تشبه نفسها.. لا مكان جديد تحت هذه السماء.. فعلامَ الخوف؟
سأجد مكاني، كما كنت أجده دائماً.. وسأشعر بالألفةقلت في سري وأنا أسير في الشوارع الجديدة.

سكنت سوريا سبعة وعشرين سنة.. كنت فيها مواطنة
وعشت تركيا سنتين.. كنت فيها مقيمة
أنا اليوم لا أحد في هذه المدينة.. إنسانة بلا صفة.. إنسان فقط

أسير في شوارع لندن الآن، أحمل حقيبةروحبصورة من دمشق
ويتردد في رأسي قول محمود درويش (فاحمل بلادك أنّى ذهبت..)

وحتى موعد الاستقرار القادم.. دمتم آمنين في أوطانكم أنّى كان شكلها وطبيعتها..

وأنا راضي على ترحالي.. هني وراضي

بدأت في
26.8.2023 | حديقة الكاياشهيراسطنبول
وانتهت في
3.11.2023 | كوستا كافيهلندن

مصدر الصورة البارزة

 

شارك ما قرأت

مسلسل كريستال.. حينما تصنع مسلسلاً بالصدفة!
أنا لا أملك ترف أن أكون فرداً

5 Comments

  1. Shireen Beiruti 20 ديسمبر, 2023 في 4:28 م - الرد

    كتيييير حلوة

  2. Ayaat 18 ديسمبر, 2023 في 7:45 ص - الرد

    ما بشك أبداً بأنك تبكيني كل مرة 🥹
    أنتي وين ما رحتي رح تكوني لجين القوية الناجحة ( لندن وأهل انكلترا وأهل سوريا رح يشهدو على نجاحك)

    • لجين 10 يناير, 2024 في 1:12 م - الرد

      شكرا كتير آيات لطفك ودعمك دائما كتير بيأثروا فيني 🥹❤️❤️

  3. D 17 ديسمبر, 2023 في 11:46 م - الرد

    من الشام، هنا لندن 🎡

اضف تعليقاً