عن السوريين.. ملوك الهلع
تتناقل السوشال ميديا خلال الأيام القليلة الماضية بعد كارثة الزلزال في سوريا وتركيا توجيهات ونصائح عن ضرورة وجود ما يُدعى بحقيبة الأزمات. وما يجب أن تحويه من مستلزمات وأوراق من الضروري أن تضمن حملها معك في حال اضطررت أن تغادر منزلك على عجل.
أحضّر حقيبة الطوارئ الخاصة بي وأضعها قرب باب المنزل. تعود بي ذاكرتي إلى الوراء حيث كانت أمي تملك حقيبة سمسونايت برقم سري، تضع فيها كل ممتلكاتنا القيّمة وأوراقنا الرسمية، وتخبئها في غرفة نومها. أذكر كيف كنا نستمتع بالعبث بمحتوياتها في كل مرة تضطر أمي لفتحها في حضورنا، باحثة عن ورقة، سلسال ذهبي، أو جواز سفر.
تستغرب صديقتي كيف عرفت أني يجب أن أضع عقد الاجار ضمن حقيبة الطوارئ إياها؟ أن أضع بعضاً من الطعام والفوط النسائية؟ أدويتي اليومية وظرفاً من المسكنّات؟
أعزي جوابي إلى سببين، الأول بالبداهة البشرية، وأفكر قليلاً قبل أن أصيغ السبب الثاني…
تعود بي ذاكرتي لبداية أيام كورونا في سوريا، حيث الفوضى في أبهى حلة. ظرف لم يسبق للبلاد أن تعرضت إليه، مواطنون خائفون، عاجزون عن توقع المستجدات.
ردّة فعلنا الأولى دائماً هي الهلع!
أساتذة في الهلع نحن، خائفون دوماً من الجوع، من العطش، من فقدان الكهرباء، وانقطاع المازوت، من غلاء الخبز، من فقدان الأساسيات.
نعرف أن ما من أحد مسؤول عنا، متروكون في الخلاء بمواجهة الحروب والأوبئة والكوارث.
كبرنا على ما يطلقون عليه اليوم في علم التشافي “عقلية الندرة”. كل ما حولك قابل للاختفاء بأسرع من لمح البصر.
أذكر في فترة كورونا حينما حُجرت وحيدة في البلاد، وكنت مسؤولة عن التسوق المنزلي. كيف أصبحت زيارة السوبر الماركت الأسبوعية مصدراً للقلق والرعب بالنسبة لي. كان الناس يشترون المحارم بالجملة، ينقضون على رف المنظفات.
كنت أسجل مستلزماتي وأعرفها، ولكني أعود دائماً وقد اشتريت ما يزيد عنها. حيث أراقب ما يتهافت عليه البشر وأتهافت عليه معهم دون تفكير.
أذكر أني في مرة من المرات اشتريت ما يزيد عن ستة علب تونا، لأني لاحظت أن سعرها أصبح يزداد بشكل أسبوعي ووصل سعر العلبة الواحدة حينها لأربعة آلاف ليرة سورية. خزنتهم في بيتي خوفاً من الانقطاع.
ثلاث سنوات مرت، وها أنا اليوم أفتح براد منزلي في اسطنبول لأرى نفس المشهد.
لم نعتد الاستقرار، لا نعرفه. نخافه. نخاف الهدوء لأننا نعرف أن عاصفة ما قادمة.
إذا كنت سوريّاً فهذا يعني بطبيعة الحال أنك تعرف دوامة الأزمات غير المنتهية التي تعيّشنا داخلها البلاد بشكل مستمر.
هناك دائماً أزمة ما إما حالية أو متوقعة.
(سمعنا بدهم يغلوا الطحين، فرزوا خبز)
(دريتوا قال بده ينقطع البنزين؟ ما تكتروا مشاوير هالفترة)
(كيس الليبيرس صار بست الاف، إذا عندك بنات اشتري طرد وخليه عندك)
تضحك صديقتي حين أخبرها أنه خلال عام 2020 انفقد الليمون في سوريا لما يزيد عن ثلاثة أسابيع.
تقول: “كيف يعني انفقد الليمون؟ ما عم أفهم”. أنا أيضاً مثلك لا أفهم.
كنت أحادث صديقي المقيم حديثاً في ألمانيا منذ عدة أيام، وتذكرنا أيام (مضايا). ضحكنا كثيراً على ذكرياتنا فيها كأطفال.
عن الشوكولا والشيبس والمنظفات والأدوات الكهربائية التي كنا لا نراها إلا هناك.
تسأل صديقتي إياها “كيف كان في منطقة كلها تهريب والكل بيعرف إنه هالبضاعة مهربة؟”
نصمت ولا نجيب. نحكي لها كيف كنا نشتري الشوكولا بسعر أرخص لأن صلاحيتها قد شارفت على الانتهاء ونضحك.
تستغرب ولا تفهم ما نقوله “كيف كنتوا تاكلوا شي رح تخلص صلاحيته؟ كيف كانوا يسمحولهم يبيعوه؟”
لا نعرف ولا نفهم. ما من شيءٍ يُفهم في تلك البلاد.
تعود بي ذاكرتي هنا عندما أجول بين رفوف السوبرماركت، لأرى السكر البني، وحليب اللوز، وأنواع القهوة ، وأنواع البهارات التي لا حصر لها. لمنشورات مجموعات الفيسبوك السوري الباحثة عن البدائل.
(صبايا بدي أعمل أكلة حلو بس غليان الحليب المكثف المحلّى بتعرفوا كيف بقدر أعمله لحالي أو شو بقدر حط بداله؟)
(بنات حدا جرب بديل اللحم الجديد اذا بدي حطه بالطبخة بدل اللحمة؟)
معتادون نحن على رد (مافي منه هاد الدوا. أعطيكي البديل الوطني؟ مفعوله أخف بس هاد الموجود)
نعم سأخذه.
مضطرون نحن أن نعتاد على البدائل الوطنية. بمفعولها الأخف، بجودتها الأقل، بندرتها، بغلاءها، بصعوبة الوصول لها.
كان أول ما فعلته في اليوم الثاني من الزلزال أن نزلت واشتريت أغراضاً للمنزل.
استغربتني صديقتي (ليش عم تشتري غراض؟ شبكي كأنو رح يصير حرب!)
هذا ما أعرفه، وهذا ما اعتدته. حين تسوء الأمور أهلع وأستعد للأسوأ.
مستعدون دوما نحن للحرب بكل أشكالها، مستعدون للفرار، للهرب، وللاختباء. من أين وإلى أين لا نعرف.
وكأن داخلنا شعور دائم بأن كل ما يحيط بنا مؤقت وغير مستقر، وبأن البساط -أي بساط كان- سيُسحب من تحت أقدامنا على حين غفلة.
وها هي الحياة تُثبت لنا أن ما نخشاه يحصل على الدوام.
قرأت منشوراً على فيسبوك يوماً لصديق سوري يعيش في المغترب يقول:
“كلّما زارني صديقٌ سوري (لا يزورني إلا السوريين بطبيعة الحال) وبعد جولة في الشرفة المطلّة على حديقة، وقريبة من سطح بناء مجاور، يتأمل الصديق محيط الشرفة ويبدأ الحوار الآتي:
– منيحة هي البلكون، فيك تنط منها، أو تهرب من هي الجهة.
– ليش بدي أعمل هيك
– يعني إذا لزم الأمر، أو حدا داهم البيت.
– مين بدو يداهم !
يجيب بتردد: ما بعرف يعني، فرضاً.
أجيبه: بعرف، وأنا هيك بفكر، فوراً الواحد بنط منها.
وكأنّه يحتاج جواباً واضحاً يمرر لي السؤال:
ليش بدك تعمل هيك بس؟
– ما بعرف، بس ما بيعرف الواحد شو بصير.
نداري ارتباكنا، ونشرد في إطلالة الشرفة الجميلة، بينما نتفكر : لم داخل كل منّا هاجس القفز من شرفة، والاستعداد الدائم للهرب وكأن هناك طَرْقٌ لا يتوقف على باب البيت.“
ربما لم نكن نحلم بأكثر من أرض تأوينا دون تهديد.
بمنزل نستطيع أن نعلّق على جدرانه صورنا وذكرياتنا دون أن نخاف من أن نخدش حائط الغرباء.
بأرض نحزن فيها دون شرح. بمكان ننتمي فيه إلى حزننا وفجعنا دون تبرير.
حتى مسافة الأمان التي ابتكرناها، نعود لنكتشف أنها في الحقيقة مسافة خوف، قلق، وهلع..
“ومع إنه المسافة بتحمي من رصاص الحرب.. بتضلي بتصيبي بالقلب”
وجعني قلبي
دمعت كاتيروقرأتها اكتر من عشر مرات .. ما عرفت افرح اني بسئل وما بعرف وما عشت وما شفت هل تفاصيل ولا ازعل انه هي التفاصيل تعريف البلد والوطن يلي براس الناس يلي كبروا هونيك؟
حتى الانتماء يلي كنت حاسة انه ناقصني وما عندي ياه طلع انتماء لوجع وخوف ما بيعرف تعب.
كل الحب لئلك.
طريقة سردك لهيك تفاصيل كتير حلوة وممتعة وكيف بتحكي عن هالمواضيع اليومية بحياتنا وبنفس الوقت عم توصفي مشاعرنا اتجاه هيك مواقف وكيف حرفيا منكون عم نفكر ك سوريين ناجيين من فترة صعبة (او لسا عم ننجو) وشو غيرت بتصرفاتنا
حقيقية كتيررررر 🥺
منجذب اللي منعرفه؟
حتى “ما نخشاه” انزرع فينا من غير قصدنا او انتباهنا، و صار بطريقة ما جزء مننا
و ما صرنا اقوى، صرنا اقوى؟
طب كيف انفقد الليمون؟ كيف؟
ما بعرف شو بدي قول.. رهيبة هالكلمات
انا برأي تصيري كاتبة
بحب العمق والسلاسة اللي بتكتبي فيهن رااااائعة