عن البطء كأسلوب حياة
تسألني صديقتي على انستغرام “كيف أرسلتي الهدايا لأختك من سوريا إلى لندن؟” أخبرها أن إحدى صديقاتها كانت في زيارة للشام وحملت لها الهدايا.. ترد قائلة: “قلت لحالي البريد بالشام اتطور” أضحك وأقول في سري “لا شيء يتطور في هذه البلاد”
تعلّمت قيادة السيارة من حوالي 3 سنوات، أقطع الشوارع نفسها كل يوم إلى العمل جيئة وذهاباً.. أتجاوز المطبات نفسها، أتفادى الحفر ذاتها.. أغرق في نفس الشوارع كل شتاء.. لاشيء يتغيّر!
أفتح حاسبي مساءً للقيام ببعض العمل، اضطر أن استخدم “بروكسي” للدخول إلى بعض المواقع، لأوهم المخدّمات أني أعيش في بلدٍ “معترف به”..تحميل الصفحات والملفات يأخذ وقتاً طويلاً.. صبري ينفذ، أغلق الحاسب. وأحمل الهاتف لأتصفح السوشال ميديا أشاهد ستوريز من أتابع من “الانفلونسر”. أنظر حولي ضوء “اللدّة” ينخر عيني، والبرد ينال مني، ألقي نظرة على الشباك فأرى ما حولي غارقاً في الظلام.
يالله! ماهذه اللعنة التي حلّت علينا! كيف أصبحت أقصى أحلامي يوم بأربع وعشرين ساعة من الكهرباء والدفء المتواصل، مع اتصال انترنت سريع يساعدني للقيام بالعمل! كيف أصبح انتظاري لساعتان في “طابور البنزين” يقال عنه في أحاديثي اليومية “الحمدلله عبيتي بسرعة”؟
كيف اعتدت واعتدنا هذا الشقاء؟ لأي نوع من البشر تحوّلنا هذه البلاد؟ من نحن ومن أنا؟
انعكس هذا البطء في المنظومة التي نعيش بها علينا كأفراد.. فأصبح إيقاع حياتنا بطيء. يخيّل لي أحياناً أن أتصوّر سورية كدائرة حكومية كبيرة. هل تذكرون تجربة المعاملة في الدوائر الحكومية التي تحدثت عنها العديد من المسلسلات السورية؟
البطء، البيروقراطية، الملل في وجوه الموظفين، برودة ردوردهم، وبطء استجابتهم. وجوه المراجعين الشاحبة، المستجدية. صعود الأدراج ونزولها من أجل توقيع وطابع. ثمن فنجان القهوة داخل المعاملة مهما كان نوعها. الفوضى، العبثية، واللانظام.
يمكنك إسقاطهم جميعاً على أي مكان، شركة، مكتب، مطعم، سوق، محل تجاري.. نفس العقلية ونفس الممارسات بنطاق أصغر.
لا أود أن أقضي عشرينات عمري في الطوابير بانتظار مواد التدفئة والغذاء وأساسيات الحياة.. لا أريد أن تكون همومي تتمحور حول الحمام الدافىء، وأن ألحق الغسيل قبل انقطاع الكهرباء، وأن أشتري الخبز قبل الغلاء. مللت هذه الحياة.. سئمت الظلام في كل مكان حتى ما عدت قادرة على التمييز النور من العتم. صُمّت أذاني من أصوات المولدات أينما ذهبت حتى خيّل إلى أنها الموسيقى التصويرية المرافقة ليوميات حياتي. كرهت أحاديث الغلاء والفساد والحرب..
أفكر بيني وبين نفسي فأضحك كيف آمنت بهذه البلاد يوماً؟ ألوم سذاجتي وقلة إدراكي. لا أمل! لا أمل من شيء في هذه المكان.
تركلنا هذه البلاد كل يوم، وتصفعنا يكفوف الحقيقة التي حاولنا إنكارها وتغطيتها بمشاعر الحب والولاء و”المواطنة”، لتصرخ علينا كل يوم قبل النوم أن لا أمل!
أريد بلاداً لا تشعرني بالذنب أنّى ذهبت.. بالذنب إذا أكلت أو ضحكت.. لا تصيبني بالفصام كلما رأيت طفلاً يغسل السيارات في البرد أمام مطعم فاخر سعر الوجبة فيه تساوي راتب موظف. لا أريد بلداً أعيش فيه معضلات أخلاقية كل يوم.. هل يجب أن أعطي المال للطفل على إشارة المرور، أو أمتنع عن ذلك لكي لا أشجعه على مايفعله؟ أفكر وأنا أعطيه النقود “عنجد؟ بدك تقعدي تنظري وتفكري كيف بدك تأصلحي هالطفل، بالوقت يلي مامعه حق شي ياكله!” يُخرس ضميري صوت المنطق في عقلي، ابتسم في وجه الطفل وهو يدعي لي، وأمضي.
لا أريد أن أفتح فيسبوك لتبصق في وجهي منشورات الخطف والاختفاء والمنافِس. منشورات البحث عن بيوت الآجار المستعجل قبل أن يطرد أصحاب البيت ساكنيه. ولا منشورات البحث عن الثياب والمكياجات والأجهزة الالكترونية، لأن بلدي ببساطة بلداً لا تعترف به الشركات المنتجة.
هوّة اقتصادية، اجتماعية، وإنسانية سقطنا بها جميعاً -لا استثني نفسي منها-، وما عدت أرى منها مخرجاً قريباً.
أريد حياة عادية.. حياةً عادية فقط، لا رفاهيةً فيما أبحث عنه.
لم أعد أريد أن أقف على الناصية لأقاتل، نزلت عن ناصيتي، ولا رغبة لي بالقتال بعد الآن.
أحلامي اختزلتها هذه البلاد وما عادت تسحق القتال، وماعاد عندي ما يكفي من الأمل لها.
أبحث عن ناصيةٍ جديدة، بأحلام أكثر استحقاقا ربما..
“مافي شي رح يتغير.. بهاد المكان دوام الحال مالو محال. روحي امسكي جريدة من سنة السبعين واقريها، مابتحسيها تبع مبارح؟”
مسلسل قلم حمرة
“مستني أنا.. شو مستني أنا؟ مستني عيش، مستني موت..”
شارة مسلسل الانتظار / ديمة أورشو وطاهر مامللي
Photo by Jay Esteban on Unsplash
عادةً ما بحب خوض أي نوع من النقاشات، متل ما قلتِ بتغريدتك من كم يوم:
https://twitter.com/LoujainBa/status/1426962084743585795
بس بتوقع النقاش حول النقاط المذكورة بالتدوينة ممكن يجيب نتيجة.
مبدأيًا، الاقتباس اللي حضرتك اخترتيه من مسلسل حمرة، بيختزل كتير أشيا.. وأهمها أنو (لو كانت العالم بالسبعينات عاشت اللي عشناه اليوم، طيب كيف قدرو يضاينو؟)، ولحتى نجاوب على هاد السؤال.. لازم نسأل -اليوم- مواليد السبعينات اللي اتربو على إيدين هداك الجيل. آبائنا وأمهاتنا اللي عم يشاركونا نفس التجربة المريرة اليوم.
خلينا نسألهن: انتو كبرتو، صار عمركن 50 أو يكاد، ليش متمسكين بالحياة؟ يمكن ما يكون عندهن جواب (فلسفي) يقولوه، بس أفعالهن بتحكي: لأنو ما عنا خيار تاني، لأنو لازم نتأقلم، لأنو هي حال الدنيا /يوم إلك ويوم عليك/
الحياة برا مو سهلة، جربتها ورجعت لقواعدي الأساسية = سوريا، شفت كيف برا لازم ننصدم بحائط ما: حائط اللغة – حائط ثقافي – حائط العنصرية – حائط الغربة عالأقل.. إلخ.
بالبلد، نحنا منقوى ببعض، منكمل بعض.. صحيح أنو عنا خلل بالطبقات الاجتماعية، بس هاد لا يعني أننا عايشين بمجتمع دستوبي، ما وصلنا لهل المرحلة.
لكل شي في حلّ، طالما اتوفرت العملة، الكهربا.. النت.. كلو إلو حلّ.
بس دخلك، لما بتكوني … لأ .. لما بكون أنا برا (مشان ما نحكي عنك) ويموت حدا من أحبائي وأنا بعيد عنه، هي شو حلتها؟
لما أخسر سنين من عمر كان لازم شاركو مع هاد الشخص، شو حلتها؟
لما أخسر ولادي لأني تركتهن وسط مجتمع غربي مختلف عني بأعرافو وتقاليدو، هي شو حلتها.. مين هيعوضني؟
مشكلتنا أننا طموحين زيادة عن اللزوم، بتتذكري تدوينتك (جيل غير سعيد)؟ أكيد بتتذكريها، طيب بتتذكري الحلّ المذكور فيها؟ نكون منطقيين بأحلامنا، وما نحلم أكتر من ما منشتغل، وإنو نلاقي المجال المناسب النا لنحلم نكون فيه. وبرأيي البلد لسه ما حرمتنا من هالشي، ولا أنا غلطان؟
شكراً لرأيك ونقاشك طارق. وأكيد برحب برأيك.
الفكرة إنه الموضوع هو موضوع أولويات، كل حدا بيقدر يشوفه من زاويته. شو الأهم بالنسبه اله. العيلة أو المستقبل أو الاستقرار أو الانتماء.. خيارات كتيرة مضطر كل حدا فينا من هالبلد إنه ينحط قدامها ويختار منها، لأنه للأسف مارح يقدر يحصل عليها كلها.
وجواباً على آخر سؤال، أنا بشوف إنها أي حرمتنا هالشي، وإنه نكون عم نحلم ببيئة طبيعية وإنسانية نعيش فيها، ما بيتعارض مع فكرة الواقعية بالأحلام.
وبالآخر العيش بهالبلد هيه تجربة مختلفة لكل فرد فينا، وكل حدا مننا بيطلع منها بأفكار ونتائج مختلفة.
قد تلدُ المآسي عبقرياً .
شكسبير
صحيح كتير .. أنا اعيش في الامارات و الله معك حق بكل كلمة قلتيها .. كتير كتير معك حق لجين ..
انتهى الاما من زمان كتير ببلادكم ..
لكن الان فقط نتسال و ماذا بعد ؟ الى اين تذهب سوريا .؟
للأسف.. شكراً لقراءتك 🙂
رهيبة
يعني شو بيقولوا “أصبتي كبد الحقيقة”
البطء اللي الكل اعتاد عليه وصار مامنو مهرب.
أريد بلاداً لا تشعرني بالذنب إني لسا عايش.
أحييكي لجين،
شكراً كتير 🙂
والله العظيم العيشة بهالبلد جهاد حقيقي 💔
للأسف..