العام الأول خارج البلاد
يخبرني معرض الصور على الهاتف بأنه في مثل هذا اليوم من عام تماماً. غادرت البلاد.
يستعرض لي صوراً من المطار، على الحدود، ومن أيامي الأخيرة – والتي لم أكن أعلم أنها الأخيرة- في دمشق.
زيارة قصيرة لاجتماع عائلي تحولت لإقامة دائمة ضمن المدينة.
بعيون منتفخة، ونفسية مهترئة غادرت البلاد، ويبدو أني كنت دون شعور مني أودع كلَّ ما فيها.
بفيديو أخير غارق في الظلام ودّعت شوارع أحببتها، ودّعت مقهاي المفضل.
أشغل أغنية مناسبة للحدث، وأقلّب بين الصور والفيديوهات.
فأرى عبارة كتبتها على الصفحة الأولى لدفتر أهديته لصديق كان على وشك السفر حينها، كتبتُ فيها:
“لمّا منودع مكان.. منودع معه نسخة من نفسنا، لأنه الوجهة الجديدة رح تتطلب نسخة جديدة ومختلفة.
لبدايات جديدة.. كلها نجاح وتوفيق ورضا..”
لم أكن واعية وقتها بأني كنت أُسمِع نفسي هذه الكلمات، حين كتبتها لغيري.
تتطلب مني المكان الجديد نسخة جديدة فعلاً، آمل أنها نسخة أفضل.
أخبرني صديق مؤخراً بأنَّ إجاباتي حول ما يخص مفهوم البلاد متناقضة أحياناً.
فتارةً أؤكد كونها موطني الوحيد، ومكان انتمائي الأوحد.
وتارةً أهاجمها وأعيد التذكير بصعوبة زيارتها واستحالة العيش فيها، باحثة عن مكان أفضل. أظنه محقاً.
ولكن أليس الأمر أشبه بعلاقة سامّة، تعرف فيها كل عيوب الشريك ونواقصه، ترى كل الإشارات الحمراء (أو الـred flags)، ولكن تستمر فيها رغم ذلك؟
تعرف بأن مشاعرك تجاه هذا الشريك عبءٌ ثقيل، ولكنك لا تقوى على تركه. يدفعك الأمل -الكاذب- أحياناً بأن تُبقي عليه، علّك تبرر لنفسك مشاعر الحنين والاشتياق، والألفة.
أعرف عيوب سوريا. نعرفها جميعاً. اختبرنا عيوبها أكثر مما اختبرنا مزاياها. ولكنها لعنة الانتماء ربما؟ لعنة الاعتياد والوطن؟
منذ بضعة أيام، أجابني سائق سيارة الأجرة حين أخبرته بأني لا أتكلم التركية، (عربي؟ انكليزي؟) أجبته: Yes english.
وللمرة الأولى كذبت بشأن انتمائي. صدمت لبرهة. لماذا أنكرتِ؟
خفت. خفت العنصرية والحكم، والأسـئلة الدرامية. رغبت بأن ينتهي الحوار عند هذا السؤال. فلا أضطر بعدها لأن أجيب على أي سؤال إضافي.
أنبني ضميري أيام بعدها. من أنا إن لم أكن سوريّة؟ ما شكل هويتي؟ ما خلفيتي؟ ما نقاطي المشتركة مع من حولي؟ دكرياتي؟ كتبي، مجتمعي، أصدقائي..
أفتح فيسبوك لأبقى على اطلاع ليس فقط بأخبار الأصدقاء، وإنما بالمجتمع السوري. أود أن أعرف عن ارتفاع سعر المازوت الأسبوع الفائت. أود أن أضحك على ميمز غلاء الخضار.
أتفاعل مع المنشورات المتعلقة بالوضع السوري، لأخبر الخوارزميات أني ما زلت هناك. وما زال يعنيني أن أعرف ماذا يحدث فيها.
دائمة البحث عن كتب عنها لتبقى أحداثها وأمكنتها دائماً من بين قراءاتي وفي مخيلتي.
أذكرها بمناسبة ودون مناسبة.
السنة الأولى على الغياب، وأزعم أني ما زلت جزءاً منها.
ظهر لي من بين الصور لقطة شاشة أخذتها قبيل أيام من السفر لمنشور يقول:
“أقسى مافي الحزن، النسيان. تريد التمسّك للأبد، لكن التفاصيل -بطبيعة الحال- تبهت. تنسى الروائح والابتسامات والحكايات. هنالك شيء في مكان ما، لكن الوصول إليه مستحيل.”
يارب لا أود أن تبهت حكاياتي فيها.. لا قيمة لذاكرتي دونها.
18-12-2022
صورة الغلاف لشرفة منزلنا في سوريا.
سلاسة وسحر وصور جميلة أنت مبدعة 👏🏻👏🏻👏🏻👏🏻👏🏻