في اليوم العالمي للصحة النفسية.. أنا ناجية!

علمت من انستغرام بأن اليوم العالمي للصحة النفسية هو اليوم أو يوم غد، لا أعرف على وجه التحديد.
فتذكرت تدوينتي السابقة في نفس المناسبة، وأحسست أن من واجبي أن أكتب جزءاً ثانيا منها.
 
في تاريخ 22 تشرين الثاني 2021، تم تشخيصي عيادياً بالاكتئاب غير النمطي (Atypical depression)
كانت ليست المرة الأولى لي مع طبيب نفسي. وأود أن أنوّه، طبيباً نفسياً مؤهلاً لتشخيص الأمراض ووصف الدواء. ليس معالجاً نفسياً أو لايف كوتش أو أي من ذلك.
أخذت جلستي الأولى معه ما يقل عن ثلاثين دقيقة، حتى أخبرني بالتشخيص، وبكونه يرجع إلى فترة سابقة طويلة من حياتي، تمتدُّ لسبع سنوات ماضية. وبأنه شبه مزمن. وصف لي دواءاً أتناوله منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم. مع متابعة من الطبيب نفسه.
 
لِمَ رغبت بمشاركة هذا على العلن اليوم؟
لأجذب الانتباه؟ لأثير الشفقة؟
لا أظن ذلك. فلست مهتمة بالانتباه، ولا أرى في أيٍّ مما سأذكره شيئاً يدعو للشفقة.
دائرتي المقربة كانت على علم بذلك، وكنت أتقصّد أحياناً أن أشارك تجربتي المتواضعة هذه مع المرض النفسي في جلسات الأصدقاء غير المقربين، حينما أجد أن ما سأقوله قد يكون مساعداً، فالتجارب الشخصية تفوز دائماً مهما تحدثنا عن رفع الوعي على وجه العموم.
 
أشارك اليوم تجربتي هنا لأذكّر نفسي وأذكركم بأن نولي هذا الجانب اهتماماً أكبر، اهتماماً حقيقياً بسلوكيات وأفعال نتخذها.
لا بأن نتابع المزيد من صفحات الوعي والصحة النفسية على منصات التواصل، ولا بأن نقرأ المزيد من كتب التحفيز والتشافي.
لا، بل بأن نلجأ للأخصائيين.
عند مراحل معينة من حياتك، لن يكون تغيير السلوكيات بشكل فردي كافياً، لن تنفعك جمل التحفيز، وتمارين التنفس، والرياضة، ولقاء الأصدقاء.. ستحتاج دواءاً ليساعدك -مع هذه السلوكيات- بأن يسيطر على كيمياء دماغك، ويعيدها إلى استقرارها.
 
منذ ذلك التاريخ أشياء كثيرة تغيرت في حياتي، علاقاتي، شخصيتي، تصرفاتي، والأهم من ذلك أفكاري.
قبل أن تظن بأني الآن أعيش حياة وردية مشرقة، دائمة التألق والانبساط.
بالطبع لا!
ما زلت أتجاوز أياماً يكون فيها النهوض من الفراش يبدو كمهمّة صعبة لا أقوى على فعلها. أو إرسال رسالة على واتساب تبدو عملية مجهدة لا أملك الطاقة النفسية لفعلها.
لابد وأنكم سمعتم كثيراً عن الاكتئاب صحيح؟ منشورات، صور، بوسترات إنه في كل مكان!
ولكنك لن تفهم ذلك إلا إن مررت به.
منذ أن عشت ذلك، وأن أتعاطف بشكل أكبر مع من حولي، أعطي المبررات، وأتجاوز الأخطاء.
فهمت فعلاً أن لكلٍّ منا معركته الخاصة التي يخوضها والتي لا يعرفها أحد.
 
حسناً إذاً أين فائدة العلاج، في حال كان كل ماسبق ما يزال يحدث معك؟
زاد استقراري النفسي على المدى الطويل.
أصبحت هذه الانتكاسات تأتي بشكل متباعد، وأقل حدَّة عن ما سبق.
منذ أن بدأت ألمس آثار العلاج، شعرت بالفترة الأولى باللوم تجاه نفسي، وبالظلم.
كيف تركت نفسي أعيش كل هذه الفترة بالحالة السابقة، ظناً مني بأن هذا هو شكل الحياة؟
كيف كنت أعيش مشاعر سلبية وفترات مظلمة، وأبرر لنفسي بأن هذه الحياة! هذا المعتاد!
لا هذا ليس المعتاد. قلقك الدائم، نوبات هلعك، تفكيرك الزائد، عدم انتظام نومك، عادات الإلهاء التي اعتمدتها والتي تظن بأنها طبيعية من أكل ومشاهدة للتلفاز أو “سكرول” على السوشال ميديا دون جدوى…
هذا ليس شكل الحياة الحقيقي، وهذه الأحداث يجب ألا تكون جزءاً طبيعياً من حياتك بشكل مستمر.
 
حين أخبرني الطبيب بالتشخيص للمرة الأولى صُدمت وفرحت. صدمتي كانت لأني بعمر ال27 وأشخّص بالاكتئاب. يا سلام!
وفرحت لأنه أخيراً قد تم وضع اسم واضح لما أشعر به.
لست كسولة، لست سيئة التواصل، لست مزاجية، لست انعزالية… أنا أعاني من الاكتئاب.
وفرحت لأني أخيراً سأحصل على المساعدة، فلم أكن مستعدة نفسياً لأن يخبرني الطبيب بأني عليَّ أن أكون أكثر إيجابيةً، أو أن أبذل جهداً أكبر. حين عرفت بأن الدواء سيكون جزءاً من العلاج، فرحت لأني أريد تدخلاً كيميائياً في هذا، لن أقوى على مواجهة هذا كلّه لوحدي.
 
منذ ذلك الحين، وفي كل مرة أبدأ بالحديث عن هذا الموضوع، أفاجئ بكمِّ الأشخاص الذين يخبرونني بأنهم أيضاً يخضعون للعلاج الدوائي.
يحزنني ذلك، ولا يفاجئني. فنظراً لكمِّ التغييرات والأحداث والتحديات التي عاشها جيلنا، يبدو ذلك مبرَراً نوعاً ما.
وبالمناسبة، أودُّ لو تم استخدام مصطلح المعاناة مع الاكتئاب، بدلاً من المعاناة منه.
فجزءٌ من رحلة علاجك ستكون بتقبّلك لوجوده، وبتصالحك مع أنه سيزورك بين حينٍ وآخر، وعليك أن تعرف كيف تعيش (معه).
 
شاهدت لقاءاً مع فناناً عربياً مشهوراً يوم أمس، تسأله المذيعة: هل سبق وأن لجأت إلى طبيب نفسي؟
يجيب: لا مشكلة لدي في ذلك، ولكن لم يسبق لي أن فعلتها. أظنُّ أني قادر على أن أعالج نفسي بنفسي.
أتخيّل لو تمّت الإجابة بنفس الطريقة فيما إذا كان السؤال “هل سبق وأن لجأت لطبيب الأسنان؟”
أرجوكم. لا تصدّقوا أنفسكم حين تخدعكم بهذه العبارات. نحن غير قادرين على علاج أنفسنا، خاصة في المراحل الأولى.
لن تعالجك جلسة تأمل، أو دورة تشافي.
سينتهي بك الأمر بالشعور بشكل أسوأ نحو نفسك؛ لأنك ستجلد نفسك بقولك:
“ها قد حضرت تلك الورشة التي تخبرك عن كيفية إدارة حياتك، فلماذا لا تملك القوة لتغييرها؟ يالك من كسول وعديم الفائدة!”
 
يتكرر في رأسي من فترة جملة لا أعرف مصدرها (?what does it take to ruin your life)
كتبتها اليوم في صندوق البحث. ظهر الكثير من الإجابات (ارتكب جريمة، تعاطى المخدرات، ارتبط بالشخص الغلط…) وغيرها الكثير من الخيارات الكفيلة فعلاً بأن تُدمّر حياتك.
 
هل سمعتم قبلاً عبارة (أنت على بُعد خطوة واحدة لتغيير حياتك)؟
أكره عبارات التحفيز والتنمية البشرية تلك، ولا أتفق معها.
لا حياة ستتغير من خطوة واحدة. هي خيارات متراكمة سينتهي بها الأمر بأن تغيّرك.
 
مع بداية كل يوم، ومع كل إشراقة شمس تضع أمامنا الحياة خياراتٍ لا حصر لها.
ونحن بوعي أو من دون وعي، نختار واحداً منها.
أنت حرُّ بخيارك هذا، وأنت مسؤولٌ عنه أيضاً.
بعد مرور ما يقارب السنة على رحلتي هذه فخورة بخياري، وفخورة لأني كنت قادرة على -وربما قريبة جداً من- تدمير حياتي، ولكني لم أفعل.
فخورة بأني في اليوم ذاك، أخذت الخيار بأن أنهض من فراشي، منتفخة العيون، شاحبه الوجه وقررت الذهاب إلى الموعد.
فخورة بأني أخذت الخيار بالدخول للصيدلية بعد ذلك، وشراء الدواء.
وبأني اخترت الالتزام بقائمة السلوكيات التي أخبرني عنها الطبيب، رغم أني كنت أجرُّ نفسي لها، ولم أكن قادرة على التفكير خلال أدائها سوى بأني أريد العودة إلى فراشي والبدأ بالبكاء.
 
كل ما سبق كان خياري، وكان دائماً هناك أمامي خياراً آخر متاح. ليس واحداً ربما، خيارات كثيرة.
لم أنتظر تحفيزاً أو تشجيعاً من أحد، اخترته ومن ثم تلقيّت الدعم الذي احتجته.
 
في حديث مؤخراً بيني وبين أختي أخبرتها: (بسأل حالي أحياناً شو يلي بيخليني أعمل يلي عم أعمله؟ ليش بدي ضل عم أتعلم واشتغل وطوّر حالي وأتحسن؟ ليش دائماً عم أبحث على فرص وجودة أفضل لحياتي؟)
لا جواب لدي.
لن أكذب وأقول (لأني أحبُّ الحياة)، لست متأكدة من ذلك حتى الآن.
ربما هي غريزة البقاء التي تدفعنا بشكل فطري للعمل على زيادة أسباب بقائنا، وتحسين البيئة المحيطة بنا.
لا بأس راضية بذلك كدافعٍ حالياً.
 
في اليوم العالمي للصحة النفسية..
أستطيع أن أقول بأني ناجية. ربما لم أنجو تماماً بعد. ولكني اخترت أن أبدأ بهذه الرحلة.
فهمتُ بأنه لم يكن خياري فعلاً حين كنت (ضحية)، ولكنه سيكون خياري في حال قبلت بهذا الدور إلى الأبد، فاخترت أن أكون (ناجية).
والآن، بعد أن عرفت قصتي، أدعوك أنت لتفكّر بخياراتك.
 
دمتم دائماً بصحة وبأفضل حال. ♥️

تنويه: كافة ما ذكر في التدوينة عن الطب أو العلاج أو الدواء النفسي، هو خلاصات من تجارب شخصية. لا أشجع أو أدعو لأي علاج أو طريقة تشخيص نفسي محدد. لست أخصائية، ولا أدّعي ذلك.

شارك ما قرأت

مذكرات 01
قبيل إتمام عامي الثامن والعشرين

8 Comments

  1. علياء 23 سبتمبر, 2024 في 3:57 ص - الرد

    يا الله شو حكيتي اللي بقلبي. أنا لست سيئة ولا انطوائية لكن انا أعاني من الاكتئاب

  2. Sara 6 مارس, 2023 في 4:02 م - الرد

    احببت كثيرا ان تدويناتك حقيقية و صادقة و اسلوبك في الكتابة جميييل جدا

  3. شرين 30 يناير, 2023 في 1:15 ص - الرد

    رائعة لجين، أحيي شجاعتك وصدق مشاعرك، تنقلين تجربتك الشخصية لأنك لاتريدين للآخرين أن يستمر الألم معهم بعد أن تألمتي

    • لجين 30 يناير, 2023 في 3:04 ص - الرد

      شكراً لقراءتك ومشاعرك ❤️

  4. Vayka 12 أكتوبر, 2022 في 7:52 ص - الرد

    معك حق لجين بكل كلمة كتبتيا… يا ريت نوصل لوقت يكون العلاج النفسي اولوية..
    بحبك كتير و بحب يللي عم تقدميه 💓💓💓

    • لجين 18 أكتوبر, 2022 في 10:10 م - الرد

      شكراً كتير لمتابعتك ورأيك 💙

  5. […] الجزء الثاني: في اليوم العالمي للصحة النفسية.. أنا ناجية […]

  6. Dania 10 أكتوبر, 2022 في 7:04 م - الرد

    ♥️♥️♥️

اضف تعليقاً