في اليوم العالمي للصحة النفسية.. أنا ضحية!

احتفل العالم من عدة أيام باليوم العالمي للصحة النفسية. لا أعرف مفهوماً قد تم علكه واستنزافه خلال السنوات الأخيرة أكثر من “الصحة النفسية”. أمسى الجميع خبيراً ناصحاً، وناشراً للوعي حول ما يجب ولا يجب فعله للحفاظ على صحة نفسية سليمة، ولا أستثني نفسي من ذلك.
حاولت أن أحلل فيما إذا كان لذلك أثراً إيجابياً في زيادة الوعي فعلاً حول الصحة النفسية ومفهومها المغيّب في مجتمعاتنا، والمساهمة في زيادة عدد الأفراد الواعين بأساسيات صحتهم وسلامتهم النفسية. أو تأثيراً سلبياً، بحيث أصبحت حديث من لا حديث له، وبالتالي قد غدا منفراً للناس كثرة تكرار هذه الكلمة، واستخدامها كشمّاعة لسوء التصرفات ورداءة السلوكيات. لم أعرف الإجابة.

أمقت أحياناً كثرة الحديث عن الصحة النفسية بمعزل عن سياقها العام، أكره تعميم الخطاب التحفيزي المرافق لها، دون الأخذ بعين الاعتبار لظروف المتلقيّن وحيواتهم.
في نقاش مع إحدى الأصدقاء المغتربين مؤخراً، وبنبرة متعالية قالت: “كل البشر قادرة على التغيير. كل الناس لديها بقعة أمل قادرة على التمسّك بها والعمل بموجبها لتغيير حياتهم”. انفعلت في الرد، مخبرةً إياها أن هذا الكلام حالم وعنيف في حق البشر، ولا يشبه الواقع. من يعرف قسوة الحياة، ومن اختبر الأمراض والاضطرابات النفسية بشكلها الحقيقي، يعرف أن هذا النوع من الأفكار مؤذٍ إلى حدٍ كبير.

قرأت من فترة منشوراً على انستغرام، يتناول الصحة النفسية بكونها قضية سياسية، وشعرت أخيراً بأن أحد ما، كان قادراً على ترجمة ما أود التعبير عنه. أقتبس منه، -وعذراً مسبقاً للإطالة-:
“عادةً ما ينظر لمشاكلنا الشخصية كشيء منفصل عن البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نعيش تحتها، وهذا لا يعيق قدرتنا على الوصول للمساعدة فحسب، بل يمنعنا أيضاً من فهمها ومعرفة كيفية إنهائها. ينطبق هذا على صحتنا النفسية، فمشاكلنا واضطراباتنا غالباً ما يعطى لها بعداً فردياً ينطلق من دائرة “لوم الضحية” التي ترميها الأنظمة الاضطهادية بمؤسساتها وقيمها علينا.
إن المقاربات الفردية على اختلاف منطلقاتها تنظر لقضايا الصحة النفسية على أنها “غير سياسية” “وفردية”، كما لو أنها لا علاقة لها بالبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، وكما لو أنه لا توجد علاقة بين اضطراب شخص ما وموقعه الطبقي والسياسي والاجتماعي والجندري.

إن حياتنا، معاناتنا، وظروفنا الشخصية هي في العمق قضايا سياسية، سياسية في جذورها وفي طبقاتها وفي أسبابها، وفي طرق معالجتها. لذلك عندما نتحدث عن الصحة النفسية علينا ربطها بسياقاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومواقعنا ضمنها. إذا كانت النساء تعاني من نوبة هلع وقلق عند التفكير في الخروج من المنزل أو داخله، في الشارع أو في المؤسسات العامة، في العائلة أو في التجمعات العامة، فإن نوبة الهلع هذه ليست مشكلة شخصية، ولكنها مظهر من مظاهر بنية مجتمعية غير عادلة.
وعندما ينتشر القلق والهلع والاكتئاب داخل صفوف العمال والطبقات المفقرة، فإن ذلك مرده بشكل كبير إلى الظروف الاقتصادية وأخلاقيات العمل وثقافة الإنتاجية النابعة من النظام الرأسمالي وسياساته، الذي لا يستغل فقط عرق العمال بل وينتج الفقر والتشرد والجوع.

لذلك نحتاج إلى إضافة أسئلة اجتماعية وسياسية واقتصادية إلى المقاربات والمناهج الموجهة للصحة النفسية، وهذا لا يعني أن نقفل الباب أمام تحليلات أخرى، لكننا نؤمن أن الأنظمة الاضطهادية وغير العادلة، الأنظمة العنيفة والاستغلالية، الأنظمة التي تضع السلطة في يد أقلية وتسحق الأغلبية. هي أنظمة تنتج القلق والهلع والاكتئاب، تنتج تمايزات يعامل من خلالها الأشخاص وفق قدراتهم الجسدية والعقلية والنفسية، وجندرهن، وعرقهن، وبالتالي يقع أغلبية من لا يستوفون شروط الامتيازات تحت ماكينة سحق لا تتوقف.
لا يمكن أن نحظى بالتعافي واستعادة صحتنا النفسية، دون أن نبحث عن الأسباب السياسية لمعاناتنا، وأن نتوقف عن تحميل الناس وزر بؤسهم ولومهم على مشاكل ينتجها النظام. نحن بحاجة إلى عكس مسار الصحة النفسية من قضية فردية إلى الاعتراف بأنها قضية سياسية. بحاجة إلى الاعتراف بأنه لا يمكننا التعافي والشفاء في نظام الصحة النفسية الحالي. بحاجة إلى الوصول إلى طرق شفائية متاحة ومناهضة للعقابية، للسلطة القسرية، والحجز القسري، وغير مقتصرة على العلاجات السريرية المتمركزة حول تجارب الشعوب البيضاء والطبقات المهيمنة، وبدلاً من ذلك نريد الانفتاح على طرق علاجية جماعية تنبع من تاريخ الاستشفاء في شعوبنا وسياقاتنا.”

في اليوم العالمي للصحة النفسية، أرغب بالاعتراف بكوني ضحية! وأودُّ فعلاً لو يتم منحي المشروعيّة لشعوري على هذا النحو. أنا وغيري مِن مَن عاش في هذه البلاد، من غادر ومن لم يغادر. جميعنا ضحايا!

سافرت من فترة قصيرة خارج البلاد لعدة أشهر، ولم تكن المرة الأولى لي خارجها، ولكني بعد مضي فترة قصيرة هناك، بدأت أعي مشاعرة جديدة لم أختبرها بهذه القوة من قبل، كان الشعور بالذنب يأكلني دون علم مني. كان هناك شعوراً دائماً داخلي بأني قد تركت من أحب، ولست قادرة على الاستمتاع بما كنت لطالما قد حلمت به معهم.
أدخل محلات الثياب فأذكر المسجات وصور الانستغرام التي طالما تناقلتها مع أصدقائي، ساخرين من أسعار شحنها، وراغبين بالحصول عليها. أجدها أمامي سهلةً يسيرة فأكره الشعور وأكره نفسي.
أتفادى مشاركة الأحداث التي تعدُّ عادية في العالم الآخر على وسائل التواصل، لأني أشعر برفاهيتها، وأخاف أن أجرح من أحب داخل البلاد بالتباهي.
خلال تجولي في المطاعم وأماكن التسلية هناك، لاحظت شعوراً قديماً اعتدت الإحساس به في مثل هذه الأماكن داخل البلاد، قد تلاشى نهائياً. كنت دائمة الشعور بالذنب والشفقة على العاملين في مجال الخدمات في تلك الأماكن، ليقيني بأنهم غير قادرين على شراء الأكل الذي يطبخونه ويقدمونه. اختفى شعوري هذا لأني أصبحت أعرف أن كل عامل في العالم الآخر بغض النظر عن مستواه الاقتصادي والمعيشي، قادرٌ على تحمّل تكاليف التسلية والرفاهية ولو بمستويات مختلفة.

وأشعر بالذنب الآن حتى لقدرتي على دعوة نفسي ضحية، وأنا التي لم تفعل بها الحرب كما فعلت بالآخرين.
تذكرني صديقة بأنها (عقدة الناجي). حسناً، كيف أتخلص منها إذاً؟

تذكرت تغريدة قرأتها تقول صاحبتها:
“المشكلة بالسفر مو بس تغيير المكان، المشكلة أنو اللي بيطلع من البلد بيكون سافر عبر الزمن، بيكون راح لبلد عايش بال2021 فعلاً.. الاغتراب اللي بيعيشوه الأهل والرفقات مو بس لأنو اللي بيحبوه بعّد، بل أنو راح لزمن مختلف بهموم مختلفة هنن ما فيهم يفهموها ولا يتفاعلوا معها.”

قد يعترض أحدهم قائلاً: كلنا ضحايا المكان الذي نشأنا فيه بطريقة أو بأخرى. صحيح ولا ننكر ذلك على أحد.
جميعنا ضحايا. لن نستسلم لذلك -بعضنا على الأقل-، ولكن كفّوا عن سلبنا حقنا بالشعور بذلك، توقفوا عن حرماننا بالشعور بالضعف، وبالألم، وبالقهر. كرهنا الإيجابية السامّة التي تنشروها كيفمّا توجهتم، بصيغة الدعم والتمكين.
لن نبقى ضحايا للأبد، ولا أود أن يُفهم كلامي كدعوة للاستسلام والخنوع، أعي تماماً أهمية الكفاح والمحاولة.

ولكن في اليوم العالمي للصحة النفسية أود أن أطلب منكم أن توفروا لمن حولكم -فيزيائياً وافتراضياً- المساحة الآمنة ليكونوا ضعيفين، متعبين، ومقهورين، وأن تنظروا لما يعيشوه بعين الرحمة. آخذين ظروفهم السياسية والاقتصادية والمعيشية والاجتماعية والصحية والجغرافية بعين الاعتبار. وساعدوهم على التعافي بطريقتهم الخاصة، متفادين النصائح الجاهزة في خطابكم.
واسمحوا لنا دون لوم ودون خجل، أن نعترف بأننا ضحايا.

“‏أظن أنني كنت طوال عمري أكره القهر، قهر الإنسان بالفقر وقهره بالخوف، والأهم من ذلك قهره بالجهل؛ أن يعيش الإنسان ويموت دون أن يعرف أن في الدنيا علماً فاته وجمالاً فاته وحياة لم يعشها أبداً” بهاء طاهر
وسلّملّي عالبلد..

الجزء الثاني: في اليوم العالمي للصحة النفسية.. أنا ناجية

شارك ما قرأت

علّمني الحب.. بمدرستك
skyليس سراباً

18 Comments

  1. آية 23 سبتمبر, 2024 في 1:17 م - الرد

    ❤❤

  2. […] هو اليوم أو يوم غد، لا أعرف على وجه التحديد.فتذكرت تدوينتي السابقة في نفس المناسبة، وأحسست أن من واجبي أن أكتب […]

  3. Lynn Omran 12 أبريل, 2022 في 9:01 ص - الرد

    كتير حلو لجين ❤️❤️

    Keep going ❤️

  4. Lujain 10 أبريل, 2022 في 9:52 م - الرد

    هالحكي مميز جدا .. مارح يحس في بشكل حقيقي الا شخص مغترب .
    ولا في شي احلى من رفع الوعي 💓

    • رياض البغدادي 29 يناير, 2023 في 11:10 م - الرد

      مبدعة دائما وشاطرة بدعي لربي يطول بعمري لشوف نجاحاتك على طول
      بحبك

  5. سعاد البكري 9 أبريل, 2022 في 1:04 م - الرد

    عنجد كتير حلو

  6. نسرين العباسي 9 أبريل, 2022 في 12:38 م - الرد

    اسلوبك سلس ولطيف وجاذب . استمتعت بالقراءة واحسست اني اقرأ افكاري التي لا استطيع ان اصيغها بكلمات . معك حق بكل كلمة التنظير من اعالي القمم فوق رؤوس المنكسرين والعاجزين بحجة الدعم والايجابية مؤلم ومهين .. سوف اتابع باقي مقالاتك . استمري أرجوك .👍🏻

  7. ايمان 15 مارس, 2022 في 10:11 م - الرد

    عن جد لا يُمل منها

  8. ايمان 15 مارس, 2022 في 10:11 م - الرد

    بتجنن

  9. لين 15 مارس, 2022 في 9:04 م - الرد

    كلام صحيح والله👍🏻

    • لجين 15 مارس, 2022 في 10:23 م - الرد

      شكراً لين.. كتير انبسطت إنك دخلتي وقريتي ونالت إعجابك 💛

  10. حنان حمادة 24 فبراير, 2022 في 5:54 ص - الرد

    رااائعة وعميقة

  11. حنان حمادة 24 فبراير, 2022 في 5:54 ص - الرد

    كتيييير حلوة 💕💕

اضف تعليقاً