ليس سراباً
أنصح بقراءتها مرفقة بهذه المقطوعة لـ طارق الناصر
” وأخذ يسير على مهلٍ بين أضواء دمشق وشجرها وبشرها.
فكّر.. كل شيء ها هنا جميل، لكن ثمة شيء ما يشوب هذا الجمال لعلّه شيء من الحزن، لعلّه شيء من البحث عن الذات، عن ذات هذه المدينة العتيقة.
نعم، إنها تدرك روحها وهويّتها، وتتغنى بأصالةٍ يحقُّ لها أن تتغنى بها، لكن ثمّة طريقاً وحلماً،ثمّة غدٌ ينتظر، ثمة فكر يحتاج من يؤمن به، ويعمل من أجله.
ولطالما كان يحدث معه ذلك على الدوام، يُفكّر في دمشق، يُفكِّر في هويةٍ وحلمٍ وغد، وتخطر له حينها.
وكأن عينيكِ -يا أيّتها السيدةُ الجميلةُ البهيّة- قد صارتا حلمي وهويتي وطريقي، وكأنهما قد كانتا منذُ الأزلِ أمسي، وستبقيان إلى الأبد ذلكَ الغد العامر بالمساحاتِ الفسيحةِ، التي تترك لكلِّ من تنير طريقه -مثل هذه الشمس الدمشقية الحانية- فضاءاً رحباً من الحرية.
كانت ضروباٌ متنوعةً من المشاعر تعتريه وتؤرّق روحه، جلس يفكر.. كانت هيَ تملأ المكان. لم تكن هنا، لكنها منذ زمن باتت تملأ كلَّ أمكنتي والأزمنة. أخذ يخاطبُ نفسه.. تُرى هل حقاً ضاع العمر هباءً؟
وتذكّر تلك الصحفيّة الجميلة التي تبحث عن موقع تستحقه في عالم الصحافة والفكر. كانت قد سألته السؤال نفسه، وردَّ عليها يومها قائلاً: “لا! بل قد فعلنا الكثير! وثمّةَ الكثير ينتظر. ينتظركم أنتم. ينتظر جيلكِ، والكثيرات والكثيرين ممن هم مثلك، ممن ينبضون بالحياة والأمل والحلم.”
أتراهُ كان يكذب عليها، أم على نفسه؟
لطالما تنازعه الحلم واليأس، لطالما قال في نفسه مرات عديدة في اليوم الواحد، أنه لم تعد هناك أيّةُ جدوى من أيِّ شيء، ثم عادَ وقال لنفسهِ مراتٍ متعددةٍ في اليوم نفسه، إن الحلم سيكون حقيقة!
لطالما ترنّح جيئةً وذهاباً بين هذا وذاك، إلى أن أشرقت على حياته عيناكِ..
جاءت عيناكِ إليه تحملان وعداً وحلماً وأملاً بالحبّ ومايحمله الحبُّ من بهجةٍ وسعادة. لكنهما لم تكتفيان بذلك، بل جاءتا أيضاً لتحملان إليه وعداً وحلماً وأملاً، بأنك ستكونين معهُ ولهُ، رغمَ كلِّ شيء.. رغم كلِّ شيء..
وكل شيء كان يقول لكِ وله.، إن الحلمَ ليس أكثر من سراب. فثمّةَ بينكِ وبينه عوالمٌ رُسمت حدودها في أزمنةٍ غابرةٍ قديمة قد ولّت. وحين محت رياحُ التاريخ كل الحدود القديمة ظلّت تلك الحدود بين عالمكِ وعالمه قائمةً راسخةً تأبى أن تنحني أمام أيّة رياح.
لكنكِ ابتسمتِ ببهاء وقلتِ له: بلى، إن الخيار سيكون لنا ذات يوم.
ومنذ ذلك الحين وهو يسأل نفسه: ما الذي يمنع أن يكون الخيار لنا هذا اليوم؟ إلى متى سنُرجئ كل شيء بانتظار يوم قادم لايعلم أحدٌ كيف سيأتي؟ إن كان كل مانفعله فقط هو الإيمان أنه سيأتي من تلقاء نفسه.
لا يا حبيبتي. لن يأتي ذلك اليوم من تلقاء نفسه. لن يأتي إن واصلنا القول أننا ننتظره وحسب. لن يأتي إن قلنا إننا سنخوض معركتنا غداً، وسنحلم بفكر جديدٍ سيأتي غداً، وسنتألمُ ونخبّئ أجملَ مانملكَ كي نعلنَه غداً.
لا ياحبيبتي. هو لن يأتي إن واصلنا التفكير بهذه الطريقة. هو لا يأتي أصلاً، بل علينا نحنُ أن نذهبَ إليه. علينا نحنُ أن نذهبَ إليه. إن ذلك الغد هو حلمنا الجميل والكبير، والذي لن يكون إلا مجردَ وهمٍ إن نحن تقاعسنا عن قضاء ما يتوجّب علينا أن نؤديه.
إنه كما أنتِ حين بدأت تلك الحكاية. كنتِ تبدين حلماً جميلاً قصيّاً دونهُ أزمنةٌ وحدود. وها أنتِ اليوم تمنحين عمره المرهق حلماً كان يظنه قد آل إلى مجردِ خريفٍ غابر، وشمساً كان يظن أن ليس له بعد منها إلا بعض الأطياف.
ها أنتِ حقيقةٌ يتأمّلّها، ويلمسها، ويشمّها، وكأنه يريد أن يثبت لنفسه مرة تلو الأخرى أنكِ حقيقةٌ ولستِ سراباً..
كما سار على دروب هذه العمر وهو يؤمن ويعاود خلق لك الإيمان المرة تلو الأخرى، أن ذلك الحلم الجميل هو حلمٌ بهيٌّ، سيذهب نحو ذلك الغد، ولن ينتظره لكي يأتيَ من تلقاء نفسه.
سيذهب.. ليعلن من هناك أنه هو.. هو الحقيقة!
أنه ليس سراباً..”
المقطع الأخير من الحلقة الأخيرة من المسلسل السوري “ليس سراباً“
تأليف: فادي قوشقجي، إخراج المثنى صبح
الإلقاء بصوت: عباس النوري
Photo by Lucas Carl on Unsplash