الرسالة الثانية

نشر في: 18 مايو, 2024 | الأقسام: مذكرات | تعليق واحد on الرسالة الثانية |

صديقتي الغالية:

أكتب إليك من مقهى في لندن لا أعرف اسمه، دخلت إليه صدفة بعد أن أضعت طريق العودة للمنزل بعد موعد، تبدو صدفة لطيفة لن أفوّتها.. قررت أن أكافئ نفسي بفطور لذيذ وقهوة منعشة في هذا الحر..
أخبرني الجميع عن برد لندن، ولكن لم يخبرني أحداً عن حرّها! ولكني أحب الصيف كيفما كان..

أحاول مؤخراً أن استمتع برفقة نفسي، وأن أعوّد نفسي بأن أتجمّل لرفقتها، وأن أهديها الحب والاهتمام الذي لطالما وزعته لمن حولي..
حيث اكتشفت مؤخراً أيضاً بأن معظم ما كنت أظنه علاقات قوية ووثيقة في حياتي، كانت علاقات قوية بسببي أنا..
بسبب الخطوات التي اتخذتها، والمبادرات التي صنعتها أنا لاستمرار التواصل. كنت أؤمن بأن العلاقات التي أملكها هي رصيدي الوحيد.. وفراش الأمان الذي سيلتقطني إذا ما هويت..
تبيّن لي أن كل علاقة قررت أن لا أقدّم فيها جهداً مبالغاً انتهت، أو تحوّلت إلى علاقة باردة جامدة..

احتاج الأمر مني وقتاً لأسوعب بأن ما حدث كان واقعاً، هل كل ما ظننته ونسجته من آمال وتوقعات عن علاقاتي التي أسميتها «شبكة الدعم» الخاصة بي كان وهماً في رأسي فقط؟ يبدو كذلك..
لا أود أن أبذل طاقة ووقتاً فيما لن يعود على بطاقة تماثلها وتعاكسها في الاتجاه.. لا طاقة ستذهب سدى بعد اليوم..
ومقدار خسارتي للأشخاص يعادل خسارتهم..

تبدو الجملة كبوست فيسبوك مبتذل، ولكنها الحقيقة..

أتابع في جلسات العلاج منذ ما يقارب أربع أشهر بشكل منتظم أسبوعياً، وأظن أن هذا أفضل قرار اتخذته في حق نفسي منذ فترة طويلة..

لن أخبرك عن كيف غيّر العلاج حياتي، وكيف ساعدني على قطع العلاقات السامة وغيرها من الشعارات. أشعر بالاشمئزاز من هذه الكلمات.. أصبحت شمّاعة لكل من يود الخروج عن حدود اللياقة والأدب في علاقاته مع البشر وإيذائهم.

ما أود أن أشاركه اكتشافي بأن كل ما نتقيأه على منصات التواصل الاجتماعي عن الصحة النفسية ليس خطئاً بالضرورة، هو حتماً صحيحاً في سياق ما.. ولكن العبرة ليست في النتيجة.. العبرة ليست في الخلاصات التي نقرأها هنا وهناك..
العبرة كل العبرة في الطريق.. في التجربة.. في المحاولات..
في التحديات التي ستعيشها، الدموع التي ستبكيها، الليالي التي ستسهرها، والصباحات التي ستبغضها، وصولاً إلى تلك النتيجة..

ولكن حين يخبرك بها أحدهم جاهزة معلوكة، فهو أشبه بأن أعيد على مسامعك نتيجة عملية حسابية معقدة دون أخبرك خطوات الحل، متوقعاً منك بأنك ستصبح نابغاً في الحساب بهذه الطريقة.
هي رحلة فردية فردية.. لا شيء فيها يصلح للتعميم..

لا أظن ذلك مُلزماً لكل أحد بالضرورة، فإن كنت تجد حاضرك مريحاً ومستقراً، لا حاجة لك إذن بنبش الماضي.
لزم التنويه لأني أيضاً أبغض دعوات التشافي والعلاج الجماعية وكأنه فرض عين على كل البشر.

علامة أخرى من علامات العلاج التي لمستها مؤخراً في نفسي، أني اعترفت أخيراً بأني قد أكون فعلاً الشخص السيء في رواية أحدهم..
هذا صحيح..
قد تؤذي وتجرح من حولك دون قصد في خضم محاولاتك للنجاة، وبقدر بشاعة ذلك، ولكنه يحدث..
خسرت مؤخراً صداقة غالية بهذه الطريقة.. وأقمت عزاءاً داخلياً طويلاً..
حاولت أن أقدم أعذاري لأتحمل الجزء الخاص بي من المسؤولية ولم أنجح.. يبدو أن بعض الصداقات غير مقدّر لها الاستمرارية..
قد يبدو ذلك تبريراً سخيفاً، أعترف بذلك.. ولكن حسبي أني كنت صديقة جيدة حين استطعت أن أكون..

تبدو رسالتي والتحديثات الخاصة بي كئيبة، ولكن حياتي اليومية ليست بهذا البؤس صدقيني!
-ولكن هي الأجسام أكبر مما تبدو في المرآة-
بدأت اعتاد المدينة، نوبات الحنين بدأت تخف (شاهدت مسلسل «قلم حمرة» للمرة الثانية مؤخراً وبكيت في نهاية كل حلقة، لذا يبدو ما زال أمامي طريقاً طويلاً في ذلك)، أصبح عندي أصدقاء جدد، حصلت على أول عمل رسمي لي هنا.. أترين؟ حياة يومية جيدة.

يقول لي صديقي بأن كتاباتي تعكس شكلاً مجرداً عن الحياة (abstract) وأعجبني الوصف..
مع أني أحاول أن أغير منظوري للحياة، أن أراها من الداخل للخارج. أن أعيش تفاصيلها غير آبهة بالمعنى العام، والتوجّه وكل هذا..
ولكن مازال ذلك صعباً، مازلت لا أستطيع أن أفهم الحياة إلا من الخارج للداخل، أود أن استكشف ماهيّة الحياة والمرحلة، لأستطيع استيعاب مايدور فيها وسببه ونتيجته..

يبدو كلامي فلسفياً بشكل مبالغ فيه.. لذا سأتوقف هنا الآن لأتناول طعامي.. وسأتركك مع هذا النص
نص يبهرني في كل مرة أقرأه وكأنها المرة الأولى..

======

«أريد أن أراك ثانية لأول مرة
أريد أن نمشي سوية، آمنين، نخطط لإعادة هيكلة العالم، بثقة مفرطة، وكما تقول، بعدم إدراك لموقعنا في التاريخ
أن أعاتب أحد بشدة، وأصرخ فيه، متخليًا عن دور العاقل الرصين، مطمئنًا أن بيننا ما يسمح لي، أخيرًا، بالانفجار
أن أحكي حكاية طويلة جدًا، شخصية جدًا، دون احتراس أنني أحكيها للمستمع الخطأ
ألا أكون مرة أخرى، وإلى الأبد، الطرف الأكثر حماسة
ألا أجد في كل بيت جديد، مخاوف جديدة، لم أخترها، وعلي أن أتعايش معها
ألا أتمنى كل يوم، أن تدهسني سيارة مسرعة، لتخلصني من مكائد لم توجد إلا في خيالي
أن أعبر عن رأيي بحماسة من يظن أن رأيه سيعني شيئًا ما
أن يتفتح لي عالم غريب حين أقرأ صدفة كتاب ما
أن تؤنسني قصيدة، وأتماهى مع بطل رواية
أن أكتشف فيلسوفًا، يقنعني، لفترة ما، أنه نجح في تفسير العالم فعلا
وأن أتعجب بعدها، كيف خال علي هذا الكلام الأحمق
ألا أصيغ مشاعري كنكتة لأمرر حميمية سُترفض إن أعلنت عن نفسها صراحة
ألا يدفعني انعدام الجدوى، لعقلنة القبح والاستغلال
وألا أضبط نفسي متسامحًا مع قسوة موجهة إلي
ألا تمتد يدي إلى يد ستنسحب بهدوء، وألا يتجمد وجه حين أمرر يداي عليه
أن تتلو علي قصيدة مراهقة جدًا، بفخر، في لقاءنا الأول، في ميكروباص
وأن أسمع صوتِك فرحًا وجسورًا وثقيلًا للمرة الأولى حتى أهم أن أقبله
أن تقولي لي في موعدنا الأول، نكتة بذيئة جدًا، حتى أشعر بالخجل، في تبادل غريب للأدوار
ألا تنفجر قنبلة حب أحدنا للآخر، بينما نحن على وشك عبور حقل ألغام صداقتنا
وألا تكون تلك القنبلة، أبدًا، حبك لي
وألا يكون حبي، لأخرى، هاوية، تحاول جاهدة أن تدور بي حولها
ألا أعجز عن مساعدة أحد وعدته بالمساعدة، وألا يفلت من يدي ما هو لي
ألا يرتعش جسمك حين أمرر يديك على ندبات روحي
وألا تفسري قولي لك أنني سأكون دائمًا بجوارك، على أنها محاولة مهذبة لإبقاء مودة ما في علاقة ميتة
وألا أتعمد الخطأ في تأويل رفضك لي، على أنها محاولة لتخفيف الاندفاع، وليس قطع الطريق
وأن أندفع في اللحظات المناسبة، دون أن يعرقلني تحفظي الزائد
أن تثيرني امرأة كفتى في السادسة عشر، ويخدعني أمل كطفل غر، وأتكلم بصوت عالي دون أن أتلفت مع كل جملة
ألا تدفعني قلة الخيارات، للاستقرار مع كل ما أحتقره
ألا يصير كل ما أحبه بعيدًا جدًا حتى تصير أحلامي كأحلام الأطفال، وجبة خيالية دسمة لواقع شره وصائم
وأن أنسحب حين أكاد أسقط، دون أن يدفعني شعوري بالمسئولية للاستمرار حتى أنسحق تمامًا
وأن أشعر بالامتنان حين أرى ولدا يخبر فتاة جميلة جدًا بحبه لها، لأنه على أحدهم أن يفعل
وأن أرى شيئًا جميلًا جدا، حتى أشعر بأنه لن يفوتني أي شئ حين أموت
وأريد، قبل موتي، أن أكتب شيئًا ذكيا وجميلا جدًا
ليس لمراوغة الموت بمحاولة الخلود الأدبي
ولا لتمرير وهم حكمة ما إلى القادمين
بل للدفاع عن ما سيصير ماضيًا
أننا لم نرحل، لقلة في الذكاء أو لنقص في القدرة على استيعاب الجمال
كانت لعبة غير عادلة
وليس بوسعنا هزيمتها إلا على المدى الطويل جدًا
أن تكون أشباحنا أكثر ألفة وطمأنينة من أطلالها»

لـ بلال علاء

======

لندن 17-05-2024

شارك ما قرأت

جوي أورد - العرب يحتفون بعقدة الرجل الأبيض
السنة الأولى في بريطانيا - ملف دليل لندن

تعليق واحد

  1. Yara 18 مايو, 2024 في 4:57 م - الرد

    انا كمان من سنة تقريباً بلشت جلسات تشافي … واكتشفت اديه كنت غلطانة بحق نفسي واديه كنت عاطية حق لناس يقيموني وطلع التقييم كله غلط … المشكلة انو هاد الشخص كان كل شي بحياتي وما بقدر اني اتخلى عنو لانو اب اولادي… بس خيب ظني كتير وكان مفهمني اديه انا غبية وما بقدر اعمل شي… بس تحديت حالي ورجعت بلشت دراسة وعم حاول استقل لحتى لاقي نفسي من اول وجديد… البني ادم عندو قدرة رهيبة بس لازم يكتشفها وما يخلي حدا يقلل منه… كنت وانا بالمدرسة كتير اكتب خواطر وكانت كتابتي حلوة وحابة ارجع عيد هالشي وانتي شجعتيني
    موفقة…

اضف تعليقاً