الأكل بوعي وارتباطه بمفهوم الصيام

مع بداية انتشار وباء كورونا في سوريا عام ٢٠٢٠، وبدء مرحلة الحجر الصحي، كنت على موعد مع بداية وفرصة ذهبية غير مخطط لها للاعتناء بصحتي و غذائي وبدء اهتمامي الحقيقي بهذا المجال. مما أثر إيجابياً على حياتي بشكل كبير، فانعكس بخسارة كبيرة للوزن (رافقني الوزن الزائد لفترة طويلة من حياتي)، بالإضافة إلى تحسّناً عاماً في الصحة والمزاج والبشرة والنشاط الفيزيائي، و أصعدة عدة أخرى من حياتي.

لطالما كان موضوع الصحة والتغذية بشكل خاص من المواضيع التي تشغل بالي باستمرار، كوني -كما ذكرت- كنت أعاني من وزن زائد، فكنت أشعر بها دائماً كعقبة أكبر من أن أتجاوزها. وكون الصحة -كما اكتشفت لاحقاً- واحدة من القيم العليا في حياتي.

كنتُ ومازلت أتابع الكثير من أخصائيي التغذية العرب والأجانب على منصات التواصل، كمحاولة لفكِّ مفاتيح هذا العلم. ولأكن صريحة، لم أستفد حقاً من محتواهم حتى خسرت وزني الزائد، وأصبحت قادرة على فهم واستيعاب المنطق الذي يتحدثون به بشكل أعمق.

خلال العام الماضي عدتُ لصيام رمضان بشكل كامل بعد شبه انقطاع عن الصيام الدوري لمدة تتجاوز العامين. وكانت تجربةً مختلفةً تماماً لي فيزيائياً وجسدياً ونفسياً، ولا شك أن تبدّل مفهومي ونظرتي تجاه الغذاء ساعدني بشكل كبير على خوضها، ولذا أردفت ما سبق كمقدمة للحديث عنها. وكافة ما سيذكر لاحقاً تحت مسمى “الصيام” أقصد به كلّاً من الصيام الإسلامي والصيام المتقطّع.

رمضان والطعام

لطالما تم ترويج رمضان لنا كالشهر الكريم الذي تزدان موائده بمختلف الأصناف والألوان، ولطالما تمحورت الصورة العامة له حول الطعام والشراب من كل حدب وصوب (إعلانات، منشورات، أحاديث الأصدقاء، العزائم..). لن أتطرق لنقاشات المسلمين المعتادة حول صحة هذا الطرح من عدمه من الناحية الدينية ورفضهم له رغم ممارستهم المستمرة له، فليس هذا مقصد التدوينة.
ما أودُّ طرحه هنا هو تجربتي الشخصية في كيف ساعدني الصيام في فهم جسدي وتفكيك مشاعري المتعلقة بالطعام بشكل أفضل، وطرح رؤية جديدة حول مفهوم الغذاء قد تستحق التفكير منك.

نصوم رمضان كل عام لمدة ٣٠ يوماً، لمدة لا تقل عن ١٢ ساعة في اليوم الواحد، مما يعني -منطقياً- وقتاً ومساحة أوسع دون الانشغال بالتفكير بالطعام وكلُّ ما يحيط به.
عشتُ تجربة العيش بمفردي لفترات متقطعة، وأعرف أنه في اليوم العادي تأخذ مني عمليات التفكير بالوجبات اليومية (إحضار مستلزماتها، إعدادها، تنظيف ما بعدها، وغيره…) ما يتجاوز الثلاث ساعات يومياً. بعد بدء رمضان تقلّص هذا الوقت للنصف تقريباً، فوجبةً واحدةً في اليوم يعني وقتاً أقل من يومي للانشغال بالتفكير والعمل بالطعام، ووقتاً أكبر للتفكير والعمل بما يشغلني من أمور حياتي.

والآن فكّر.. ما الحالة الاعتيادية لنا في رمضان كشعوب عربية؟
كم من الوقت نستهلك في يومنا الرمضاني للتفكير بالطعام، وتحضيره، والمعاناة من تبعات أكله الجسدية والنفسية؟

التغذية الحدسية

تزامن صومي الماضي مع تعرّفي على مفهوم جديد -بالنسبة لي- في التغذية، يدعى التغذية الحدسية (Intuitive Eating)
وهي من العوامل التي ساعدتني على التعامل مع الصيام برؤية أوسع.

التغذية الحدسية باختصار هي فلسفة تغذوية قائمة على افتراض أن الانسجام والتناغم مع إشارات الجوع الطبيعية للجسم يعد وسيلة أكثر فاعلية للحصول على وزن صحي، بدلاً من التقيد بكميات من الطاقة والدهون الموجودة في الأطعمة. وهي تشجّع على إعادة التواصل مع حواسك، ومستشعراتك الداخلية للجوع والشبع، والعمل على “إعادة ضبط المصنع” لجسدك، وإعادة بناء نظرتك حول الغذاء وكيفية التعامل معه.
وهي منهج كامل قائم على عشرة مبادئ أساسية يجب الإلمام بها وتنفيذها للبدء به، يمكنكم هنا الاطلاع عليها مترجمة باللغة العربية.

أنصح بمتابعة الأخصائية رولا غدار، والأخصائية سندس ملائكة للاستزادة حول هذا الموضوع.

جذر المشكلة

كأيِّ شيء من تصرفاتنا، تعود جذور هذا النوع من المشاعر والسلوكيات إلى طفولتنا، كونها كانت المرحلة الأولى التي ساعدتنا على تكوين صورتنا الأصلية تجاه الغذاء. فللأسف ودون وعي منّا، غالباً يتم تعريف الطفل إلى الطعام بطريقة خاطئة، فنكبر لنتحول إلى بالغين يستهلكون الغذاء لأسباب معظمها لا تتعلق بالهدف الأساسي من وجوده.

الطفل الذي يتم حبسه في كرسي الطعام لحين إنهاء وجبته، أو الذي يتم إطعامه قبالة شاشة التلفاز وهو يستمتع ببرنامجه المفضل، أو تتم ملاحقته بلقمة الطعام بينما يلعب… يكبر غير واعياً بمفهوم الغذاء، وغير قادر على التركيز بوجبة الطعام، والتواصل مع مستشعرات الجوع والشبع الخاصين به، والاستمتاع بمكونات طعامه. لأن دماغه تبرمج مع فكرة أن تناول الطعام مهمة تنتهي بتوقف والدتي عن إدخال الملعقة إلى فمي، أو بإنهاء الكمية الموجودة داخل الطبق.

والطفل الذي نشجعه على إنهاء واجباته، أو التوقف عن البكاء بإغرائه بقطعة حلوى، سيكبر ليتعامل مع الطعام كأسلوب مكافأة لمشاعره الإيجابية، أو طريقة هروب من مواجهة مشاعره السلبية، وهو مايسمى بـ الأكل العاطفي (Emotional Eating)

وصل العلم وخبراء التربية والتغذية إلى حل لهذه المشاكل، فظهر مفهوم يدعى Baby Led Weaning (BLW) وبترجمة غير دقيقة هو (الفطام الذي يقوده الطفل).
تقوم هذه الطريقة على تقديم مبادئ تساعد مقدّم الرعاية على إدخال الطعام للطفل بطريقة معينة، هدفها الأول جعل الطفل المتحكّم الأول والوحيد بعملية الأكل، من حيث الكمية والنوعية والكيفية، مع إشراف من الأهل طبعاً. وبالتالي تتشكل الصورة النمطية الأصلية عن الغذاء في دماغ الطفل بطريقة صحيحة، وتتكوّن علاقة سليمة بين الطفل والغذاء. فيفهم هدفه، موعده، والحاجة إليه. ويكون قادراً على التمييز بين أنواعه، وملمسه، والحكم على طعمه ومذاقه بشكل عفوي وحر.

أنصح بمتابعة رنا أبو سلمان، وحسابها على الانستغرام، حيث تقوم من خلاله بمشاركة تجربتها مع أطفالها في تطبيق هذا المفهوم، بكونها أم وطاهية، وتعمل على نشره بطريقة مبسطة ضمن الأوساط العربية.

الأكل بوعي

في فيديو لـ آية خانجي بعنوان (الوعي في الأكل طريقك للتخلص من العادات الغذائية الخاطئة) تتحدث عن مفهوم الاستمتاع الطعام، ذكرت معلومة بقيت في ذاكرتي فترة طويلة، وصدقتها تماماً مع الوقت.
حين تأكل قطعة الحلوى تلك التي خبأتها في الثلاجة عند منتصف الليل، وتفكر ضمنياً بأن ما أفعله غير صحيح، متأثراً بهاشتاغ الانستغرام المتداول مع صور الطعام #MidNightCrime فسيستقبل جسمك هذه القطعة، وكل ما تحويه من قيم غذائية مفيدة أو مضرة كجريمة فعلاً، سيخزّنها ويتعامل معها بشكل سلبي متوافقاً مع شعورك أثناء تناولها.
قد تبدو هذه الفكرة غريبة مستهجنة للبعض، ولكن صدقني -من تجربة شخصية-، فإن فيها الكثير من الصحة.

ومن الأسباب التي أدت تشويه مفهوم الغذاء في دماغنا مفهوم “طبخ السوشال ميديا”، والذي أعني به فيديوهات الطبخ السريعة التي انتشرت انتشاراً كبيراً مؤخراً والتي تُختَصر مكوناتها باللحم، الزبدة، الخبز، الجبن، الجبن، والكثير من الجبن..

أفكر أحياناً أني لو أخبرت جدتي من عشر أو عشرين عاماً، أن بعد فترة من الزمن سيكون هناك أشخاص يأكلون أمام الكاميرا، واضعين ميكروفونات أمام أفواههم لتصدر صوت المضغ، وعيونهم متسمّرة على الكاميرا أمامهم. لظنّوا أن ما أقوله مشهداً من فيلم خيال علمي، يتحدث عن روبوتات بشرية. ولكن لا بد أنك قد شاهدت مسبقاً مشهداً من إحدى فيديوهات ASMR أو Mucbang حيث الهدف الأول لعملية الأكل هو جذب الانتباه وزيادة المشاهدات. ما هذا الجنون!

الخلاصة

مخطئ من يظن بأن عملية خسارة الوزن أو اكتسابه، تبدأ من الطعام نفسه. أبداً!

أي عملية تتعلق بالغذاء تودُّ القيام بها (خسارة وزن، اكتساب وزن، محافظة، التزام بنمط غذائي معين..) تبدأ من دماغك!
المركز الأساسي المسؤول عن آلية تعاطيك مع كل ما حولك، ومن ضمنها علاقتك بجسدك وصورتك عنه. علاقتك مع الغذاء ومفهومك عنه. أحاسيسك تجاه ما يدخل جسدك، تحبه؟ تستمتع به؟ تمقته وتأكله كواجب؟
هل تفهم تماماً كيف يؤثّر كل مكوِّن من غذائك في بناءك الفيزيائي إيجاباً أو سلباً؟
هل تعرف ما هو البروتين، النشويات، السكريات، الغلوتين، اللاكتوز…؟
تلك المصطلحات والمسميات التي تسمع بها كثيراً من الأخصائيين في كل مكان.

لا أعرف في أي فترة زمنية تحديداً تحوّل الغذاء من وسيلة تساعدنا على النجاة والقيام بمهامنا اليومية بكفاءة ونشاط، ليصبح عدواً لنا، أو وسيلة تسلية، أو طريقة مبالغة لإظهار محبتنا وحسن ضيافتنا.
كيف تم تسويق هذه المفاهيم إلى أدمغتنا طوال هذه الفترة، فحفظناها غيباً ورددناها؟
الخبز مضر، اللحم مفيد، البطاطا مضرة.، الوجبات السريعة مضرة…وغيرها.

لا شيء مضر يا عزيزي، ولا شيء مفيد، بالمطلق!
كلٌّ يخضع لعدة عوامل لتحديد فيما إذا كان سيدخل إلى جسدك مضراً، أم مفيداً.
أول هذه العوامل شعورك بالحاجة إليه، وقابلية جسدك على تقبله.

وبينما تعمل كافة العوامل من حولنا ومن فترة طويلة على تفريغ مفهوم الأكل من فحواه وهدفه، وقصره على مفهوم استهلاكي وتجربة قائمة على البذخ واللّاوعي، فإن أمامنا تحدّياً طويلاً لإعادته لمفهومه الحقيقي الأصلي في أذهاننا، وأذهان أطفالنا.

وطلبي الوحيد لك في الخاتمة أن “استمتع بأكلك أرجوك!”

 

مصدر صورة الغلاف

 

شارك ما قرأت

بداية جديدة؟ ربما!
مذكرات 01

5 Comments

  1. Shadi 13 أبريل, 2022 في 10:57 ص - الرد

    جميل جدا ومتوافق مع ما افكر به بستمرار.

  2. إحسان العظمة 9 أبريل, 2022 في 11:13 م - الرد

    عرض ممتاز جداً، واعي ومنظّم ويجدر المساهمة في نشره.. سلمت يداكي 🙏

  3. حنان حمادة 9 أبريل, 2022 في 4:42 م - الرد

    👏🏻👏🏻👏🏻😘😘😘
    بطلة

  4. ايمان 9 أبريل, 2022 في 12:52 م - الرد

    كتيييييير صح. بتجنن

  5. سعاد البكري 9 أبريل, 2022 في 12:36 م - الرد

    رااائعة

اضف تعليقاً