وداعـاً حاتم علي
ككافة السوريين، أتابع منذ أيام حدث وفاة المخرج حاتم علي. أشاهد الفيديوهات، أقرأ منشورات الرثاء، أتمعّن في صور التشييع، وأعيد مشاهدة كل لقطات المسلسلات التي أعيد مونتاجها ونشرها له على مواقع التواصل الاجتماعي.
أسمع التسجيل الصوتي للفنانة منى واصف، الذي ترحمت فيه على حاتم، وبكت، فأبكي معها دون مقاومة.
وكعادتي أحاول أن أحلل ضمنياً سبب ما شعرت به مذ أن سمعت خبر الوفاة. أسأل نفسي. لم حزنت وتضامنت شعورياً مع كل من كتب عنه؟
لطالما آمنت بالفن كذاكرة مشتركة تجمّع الشعوب وتوحدها. كواجهة ناصعة للهوية الوطنية والشعبوية.
أنا الفتاة التي كانت ولا زالت مغرمة بالفن السوري عموماً، والدراما السورية خصوصاً تُشكّل جزءاً كبيراً من ذاكرتها في كافة مراحل عمرها. التي تحفظ مشاهداً بحرفيّتها من عدة أعمال، وتستشهد بها في حياتها الواقعية. ومن دون أن تشعر ربطت محطات حياتها بها (وقت طلع أبناء القهر كنت صف رابع يعني 2002، تابعت ليس سرابا بشهر الامتحان معناها قدمت تاسع بال2008)
أعيد ماسبق في رأسي فأتفهم مشاعري وأفهمها. أفهم الحزن على وفاة حاتم علي، الشخص الذي صنع ذكرياتي حرفياً، وكوّن مشاهد طبعت في مخيلتي إلى الأبد.
كنت أقلّب بين قنوت التلفاز السورية من حوالي الشهرين (نعم مازلت من متابعي التلفاز)، عندما شاهدت حلقة من مسلسل “أحلام كبيرة”. كانت الحلقة التي يصل فيها خبر وفاة العم “أبو شريف” إلى الأب “أبو عمر” بعد قطيعة أخوية دامت سنوات.
أذكر يومها أني بكيت كما لم أبكِ منذ زمن. كان المشهد جليلاً بعظمة أداء بسام كوسا وسمر سامي والبقية، وبروعة اللقطات وزوايا التصوير. ولكن ليس هذا ما أبكاني فحسب.
بكيت يومها كمّ الذكريات التي نبشها ذاك المشهد. بكيت الألفة التي افتقدتها، والدقة التي جسّد بها حاتم هذا المشهد المألوف في حياتنا العائلية كسوريين. فهو يعرف تماماً كيف يحوم حول قضايانا الحساسة جداً. كيف يلمسها، ينبشها ويطبطب عليها، فيجمعنا ويحترم خصوصيتنا في آنٍ معاً.
انتشر من فترة فيلم قصير نُفذّ كمشروع تخرج يحكي عن مسلسل الفصول الأربعة ويستضيف ميلاد يوسف متحدثاً عن المسلسل.
يقولون فيه: “الحنين صورةٌ سابحةٌ في الذاكرة، تتآمر مع الزمن لتربك سكوننا بلا مقدمات، نعرفها وتعرفنا بفصولها الأربعة”
المسلسل الذي تركض إليه في كل مرة تود أن تشعر بالوطن، بدفء العائلة، حنية الجد واحتواء الجدة، مناوشات العدلات، وضجة بنات الخالات.. حيث جسّد كل من حاتم ودلع الرحبي وريم حنا نموذج العائلة السورية بكل أمانة.
أذكر المرة الأولى التي تابعت فيها صدفة حلقة من مسلسل “عصيّ الدمع” أثناء متابعة أمي له. عند انتهاء الحلقة وعلى خلفية شارة المسلسل، قالت لي: “فظيع هالمسلسل مو تارك قضية عن المرأة مو حاكي فيها. رهيب حاتم علي”
حضرت هذا المسلسل بعدها عدة مرات في مراحل متفرقة من حياتي. وبالفعل لا أجد غير ما قالت أمي لوصفه.
أنا المرأة المهتمة بشؤون المرأة وقضاياها، والتي تتعامل بحساسية مطلقة مع أي محتوى يتطرأ للنساء. لم أجد عملاً فنياً قارب حياة المرأة السورية وتحدياتها بهذه الجدية والاحترام، دون توجه أو انحياز، وهذا أمر يحتاج الكثير من الاحترافية والفن!
لست بأي شكل من الأشكال أهلاً لأقيّم أعمال حاتم علي فنياً وإخراجياً، فأنا مجرد متابعة -مهووسة- للأعمال السورية.
ولكن برأيي فإن أكثر ما ميّز أعمال العلي كانت المشاهد العشوائية للشوارع السورية بين اللقطات مع خلفية موسيقى متنوعة. كان يعرف كيف يصطاد الصور بحرفية. وجوه الناس، الباعة، الحارات.. وكيف يختار الموسيقى المرافقة. ليصنع من هذه اللقطات القصيرة مشهداً بحكاية كاملة تقشعر لها الأبدان.
غادر حاتم واجتمع السوريون على رثاءه، نحن الذين لم نجتمع على رأي منذ زمن.
بكيناه لأن رحيله نبهنا لرحيل سوريا التي نحب. سوريا بصورتها التي كانت تشبهنا وتعبّر عنا. وتركنا بمواجهة مع سوريا الغريبة مشوّهة الملامح. ذكّرنا بعجزنا وذكرياتنا التي تتسرب من بين أصابعنا. ذكّرنا بحقيقة حاولنا نكرانها، بأن سوريا التي نحب لن تعود، وأن ما نشتاق إليه من طقوس وأحداث عشناها في أعماله ماعادت موجودة…
أن الماضي الذي كنا نقتات عليه هرباً من الواقع قد مات أيضاً.
أشاهد صور الجنازة وأبكي موته، وأبكي هذه البلاد.. التي تودّع ساكنيها ولا تحتضن إلا رفاتهم.
تلفظهم أجساداً وعقولاً وأحلاماً، وتحتفي بجثثهم.. كمقبرة جماعية تلمّع صورة الفقد، وتحوله لبطولة.
“ترش على الموت سكر”، تستقبل التعازي، وتتجاوز الحدث..
تُدربنا -نحن أبناءها- على الفقد والخسارة حتى اعتدناهم..
سوريا التي آمنت بها وآمن بها عمر وورد ونبيل، لم ينعيك فيها أي منبر إعلامي، ولم تنقل جنازتك على قنواتها. خذلتهم جميعاً كما تخذلنا كل يوم، تدعس على أحلامنا وتظلمنا، وتفعل بنا ما ستفعله بغيرنا لاحقاً..
لأنها لن تتعلّم يوماً كيف تحتفي بأبناءها.. حتى بعد فوات الأوان.
“لما بتطلّع على حالي، بلاقي حالي فاضي.. صِفراليدين. لا الآمال تحققت، ولا الحياة مشيت متل ما كنا نحلم من زمان، وإنه الأحلام كانت كتير كبيرة.”
عمر/أحلام كبيرة
Photo by Caroline Attwood on Unsplash
❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️
:”) <3